علماء الشريعة والقيادة
- مهمة العلماء ليست القيادة السياسية بل توعية الجماهير وتعبئتها لخدمة الصالح العام للمجتمع.
- من الخطأ الدمج المتعسف بين العلم والقيادة، لأن القيادة لها مقومات عديدة منها العلم بنسبة معينة لا تصل بصاحبها إلى حد العالم اشتراطا.
- اعتقاد بعض المصلحين والكيانات العاملة للإسلام أن الاهتمام بالعلم وتخريج العلماء يُمكّنهم من قيادة الأمة خطأ فادح.
بقلم: إحسان الفقيه
قال أحدُ الحكماء: الذي يريدُ عملاً ليس مِن شأنهِ كالذي يزرعُ النخلَ في غوطةِ دمشق، ويزرعُ الأترُجَّ في الحجاز.
قضية تجاوُزِ التخصصات هي من الآفات المنتشرة في العالم الإسلامي العربي، بل تخطت حيّز الأفراد إلى بعض الكيانات الإسلامية التي تعنى بالعلم الشرعي، وتجعل العلم به وتعليمه الأصل في رؤيتها الإصلاحية، حيث يرون أن علماء الشريعة هم المؤهلون لقيادة الأمة.
فلئن كانت هناك نظرة مُجحفة لمكانة أهل العلم، الذين هم ورثة الأنبياء، فإن هناك نظرة متطرفة أخرى تجاههم، تعتبر أن العلم الشرعي يكفل للعالم أن يقود الأمة، ويستدعون مواقف لعلماء من الأمة قادوها إلى تغيير بعض الأوضاع المجتمعية، كالمطالبة بالحقوق من الولاة، أو ما يتعلق بأمن البلاد كتجييش الشعوب ضد الغزاة.
هذه النظرة الأخيرة يشوبها الشيء الكثير من الجهل بوظيفة أهل العلم وأحوالهم وواقعهم، فمن الخطأ الدمج المتعسف بين العلم والقيادة، لأن القيادة لها مقومات عديدة منها العلم بنسبة معينة لا تصل بصاحبها إلى حد العالم اشتراطا.
أبو عبد الله بن الأزرق، أحد الفقهاء والقضاة الذين اتبعوا نهج ابن خلدون في منهجه الاستقرائي الأصولي في تفسير التاريخ، ألّف مصنفًا في الاجتماع السياسي بعنوان «بدائع السلك في طبائع الملك»، يُبرز فيه أخلاق الراعي والرعية، أفرد فيه فصلًا لاكتساب العلوم، وتعرّض في بعض مسائله كيف أن العلماء بعيدون عن السياسة، لسببين:
الأول، أنهم يعتادون النظر الفكري والغوص في المعاني الدقيقة، وانتزاعها من المحسوسات، وتجريدها في الذهن أمورًا كلية يُحكم عليها بأمر على العموم لا بخصوص مادة، أو شخص أو جنس أو صنف من الناس، ثم يطبقون تلك الكليات على الخارجيات.
والثاني، أنهم يقيسون الأمور على أشباهها بما اعتادوا من القياس الفقهي، فهم منفردون في سائر أنظارهم في الأمور الذهنية… وأما السياسة فهي تحتاج إلى مراعاة ما في الخارج. وليس مقصود ابن الأزرق الحطّ من قيمة العلماء، لكن المراد أنهم لكثرة استغراقهم في العلم النظري لا يلتفتون غالبا إلى الواقع المحيط بهم، بينما القائد لا بد له من الاحتكاك المباشر بالواقع والتعاطي معه، والتدقيق في مساره ومنعطفاته والتركيز على الجانب العملي لا النظري وحده.
عندما نقلب صفحات التاريخ، فنادرا ما نرى القيادة السياسية تتمثل في العلماء كما هو الحال في الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز. وفي العهد النبوي لم يكن التصدير للقيادة يؤهِّلُ له العلم وحده، ولم يكن من أولويات النبي صلى الله عليه وسلم أن يُنشئ مجتمعا من العلماء.
لكنه كان يشجع على العلم ويكتشف النوابغ فيه، كابن عباس وابن مسعود وغيرهما، بل ذكر الإمام ابن حزم أنه لم تُروَ الفتيا في العبادات والأحكام إلا عن مئة ونيف وثلاثين من الرجال والنساء، من جملة ما يزيد عن ثلاثين ألفا من الصحابة، فالقضية تخصصات ونبوغ في مجالات معينة.
وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُنصّب قائدا لجيش تبوك، اختار له أسامة بن زيد، وكان شابا فارسا ليس من أهل العلم، وكان في الجيش أبو بكر وعمر، الحال نفسه مع خالد بن الوليد، كان يُقدم للقيادة مع وجود من هو أكثر منه علما، أما القيادة السياسية العامة فقد تولى عثمان بن عفان الخلافة، وهناك من هو أعلم منه من الصحابة.
إن مهمة العلماء ليست تولي القيادة السياسية، وإنما ضبط مسار هذه القيادة وفق ضوابط الشريعة، وتوعية الجماهير وتعبئتها لخدمة الصالح العام للمجتمع. وكلما نظرت إلى القيادات السياسية المعتبرة في تاريخ الإسلام، ستجد هذه المواءمة بين القائد والعالم.
فترى مثلا سيف الدين قطر، كان إلى جواره العز بن عبد السلام، وصلاح الدين الأيوبي كان إلى جانبه القاضي الفاضل، الذي قال عنه صلاح الدين: «لا تظنوا أنني فتحت البلاد بالعساكر، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل».
كما تجد السلطان العثماني محمد الفاتح كان يلازمه الشيخ آق شمس الدين، والشيخ محمد بن عبد الوهاب كان أحد أطراف تلك الثنائية مع محمد بن سعود. إذن فمِن الخطأ البيّن أن يظن بعض المصلحين والكيانات العاملة للإسلام، أن مجرد اهتمامها بالعلم وتخريج العلماء، يُمكّنها من قيادة الأمة، وليس في ذلك أي تنقيص لشأن العلم وأهله، لكنه كما قيل: قيمة المرء ما يحسنه.
ومن الخطأ تجاوز التخصصات ويتصدر أحد لشأنٍ لا يُحسنه، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه الصحابي أبو ذر الغفاري أن يستعمله، فقال له: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) فلم يُصدّره للقيادة مع فضله وسبقه، لأنه لا يصلح لها. وكما قال الشاعر:
وللمعاركِ أبطالٌ لها خُلِقوا….. وللدواوينِ حُسَّابٌ وكُتَّابُ
ربما كان هذا الطرح سيراه معظم القراء بعيدًا عن واقعهم، لكنه مُوجّهٌ إلى شريحة بعينها، يندرج التوجه إليها بالخطاب تحت غاية عامة وهي، إصلاح منظومة التصورات والأفكار.
فهؤلاء العاملون في الحقل الإصلاحي، يرتكزون في توجهاتهم على تعليم العلم الشرعي، ويتصورون أن العلماء هم من لهم الصلاحية لقيادة الأمة السياسية، أو قيادتها في أي مشروع نهضوي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
* إحسان الفقيه كاتبة صحفية أردنية
المصدر: القدس العربي – لندن
موضوعات تهمك:
عذراً التعليقات مغلقة