تصر روسيا على تحويل ملف صادرات الغاز لأوروبا من مجرد صفقات وبزنس وشأن اقتصادي إلى ملف سياسي بامتياز.
يوما بعد يوم بات الرهان يتزايد على غاز قطر في حل أزمة الوقود الخانقة التي تعانيها أوروبا ويمكن أن تسبب انقطاعات للكهرباء وعتمة شديدة.
روسيا تدرك حجم المأزق الذي تعيشه أوروبا، وأنّ القارة باتت رهينة للغاز الروسي إذ تحصل على أكثر من 40% من احتياجاتها من الغاز من روسيا.
هل في استطاعة قطر تلبية احتياجات أوروبا من الغاز في ظل اعتبارات مهمة أولها ارتباط الدوحة بتعاقدات ضخمة وطويلة الأجل مع دول آسيوية مستهلكة؟
أزمة طاقة حادة تهدد أوروبا بشتاء قارس وعتمة قد تطول، كما تهدد الأوربيين بغلاء تكلفة المعيشة وفواتير الكهرباء وربما المياه والمواصلات وتضخم أسعار السلع الغذائية والبنزين والسولار والغاز.
* * *
بقلم: مصطفى عبدالسلام
تعاني أوروبا من أزمة طاقة حادة تهدد دول القارة بشتاء قارس وعتمة قد تطول، كما تهدد الأوربيين بغلاء في تكلفة المعيشة وزيادات قياسية في فواتير الكهرباء وربما المياه والمواصلات، وتضخم مرتفع في أسعار السلع الغذائية والوقود خاصة البنزين والسولار والغاز.
والسبب في ذلك تلكؤ روسيا في تزويد القارة باحتياجاتها من الغاز الطبيعي، يواكب ذلك التلكؤ ارتفاعات قياسية لأسعار الغاز هي الأعلى على الاطلاق، خصوصاً مع الزيادة الملحوظة في الطلب على الطاقة من قبل كبار المستهلكين مثل الصين والهند واليابان والدول الصناعية الكبرى.
ورغم المفاوضات المكوكية التي يجريها قادة القارة وحلفاؤها مثل إدارة جو بايدن بهدف توفير الغاز الطبيعي لأوروبا وتقليل حدة الكارثة التي تعيشها، لا يبدو حلّ في الأفق القريب، في ظلّ إصرار روسيا على تحويل ملف الغاز من مجرد صفقات وبزنس وشأن اقتصادي إلى ملف سياسي بامتياز.
ملف تسعى من خلاله موسكو إلى تحقيق عدة أهداف أبرزها ارغام أوروبا وحلفائها الغربيين على تشغيل مشروع “نورد ستريم 2″، وهو المشروع الضخم الذي ينقل الغاز الروسي إلى دول القارة ويدرّ مليارات الدولارات على الخزينة الروسية سنوياً ولا يزال تشغيله يتوقف على موافقة المفوضية الأوروبية في بروكسل.
والهدف الثاني هو الضغط على أوروبا للتخلي عن دعم الولايات المتحدة والغرب في ملف الصراع في أوكرانيا وإحداث شرخ في القرار الأوروبي الصلب والمتماسك حتى الآن تجاه دعم أوكرانيا المهددة بغزو روسي واجتياح من جيشها الرابض على الحدود.
أوروبا إذاً في أزمة في ظل تباطؤ الإمدادات الروسية من الغاز وقلة البدائل السريعة، خصوصاً مع وقف الجزائر تصدير غازها لأوروبا عبر خط أنابيب الغاز المغاربي- الأوروبي الواصل بين الجزائر وإسبانيا والبرتغال مروراً بالمغرب، وقفزات أسعار الغاز عالمياً، والتي تضاعفت لأكثر من خمسة أمثال في الشهور الأخيرة، وبداية فصل الشتاء في أوروبا.
روسيا تدرك حجم المأزق الذي تعيشه أوروبا، وأنّ القارة باتت رهينة للغاز الروسي إذ تحصل على أكثر من 40% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، ونحو 30% من الغاز الروسي المتدفق إلى أوروبا يمرّ عبر أوكرانيا.
وفي حال حدوث الغزو الروسي فإنّ القارة قد تفقد الإمدادات الروسية كاملة، كما تفقد أوكرانيا نحو 1.5 مليار دولار كرسوم مرور للغاز الروسي، وهنا تدخل أوروبا في عتمة قد تطول.
في المقابل، فإنّ بدائل الغاز الروسي غير متاحة ولا تزال غير كافية في حال زيادة نسبة تدفقها للقارة العجوز، فالنرويج تزود أوروبا بنحو 17% فقط من احتياجاتها من الغاز، وهي نسبة غير كافية لضمان تزويد المواطن الأوروبي باحتياجاته من الكهرباء أو توفير غاز تدفئة يقيه من شتاء قارس.
وقطر تزود القارة حالياً بنحو 5%، كما أنّ الغاز الصخري الأميركي ليس حلاً سريعا ولا يمكنه تلبية احتياجات أوروبا لأسباب كثيرة تتعلق بالأسعار والشحن وحجم الاستهلاك المحلي في الولايات المتحدة وارتباط واشنطن بتعاقدات مع دول من الصعب الإخلال بها.
الجزائر والنرويج وكندا وإيران وهولندا ومصر ودولة الاحتلال وغيرها من الدول المنتجة للغاز، كلها خيارات أمام قادة القارة في تخفيف أزمة الغاز، لكن هذه الخيارات صعبة وبعضها غير متاح كما هو الحال مع الغاز الجزائري، أو يواجه مشاكل في التصدير بسبب العقوبات الأميركية على طهران كالغاز الإيراني.
كما أنّ نقل كميات ضخمة من الغاز الطبيعي لأوروبا عبر السفن يحتاج إلى وقت واستثمارات مالية ضخمة، فما بالنا إذا مر الغاز عبر الأنابيب خاصة في البحار، ويبدو أنّ الشتاء القارس وعودة متحورات كورونا لا تترك خيارات سريعة لاحتواء أسوأ أزمة طاقة تمر بها القارة في تاريخها.
هنا تتجه العيون إلى قطر لاحتواء تلك الأزمة المتفاقمة خاصة مع الامكانات الضخمة التي تمتلكها في هذا الشأن، فقطر أكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم وتمتلك ثالث أكبر احتياطي للغاز (نحو14% من الاحتياطي العالمي)، ولديها خطة لضخ عشرات المليارات من الدولارات كاستثمارات جديدة في قطاع الطاقة بهدف زيادة إنتاجها من الغاز المسال من 77 مليون طن حاليا إلى 126 مليون طن سنويا بحلول عام 2027 وبنسبة زيادة 64%.
ويوما بعد يوم بات الرهان يتزايد على الغاز القطري في حل أزمة الوقود الخانقة التي تعاني منها أوروبا والتي يمكن أن تسبب انقطاعات للكهرباء وعتمة شديدة خلال الشتاء القارس.
ومن هنا تأتي التحركات الحالية، فالرئيس الأميركي يستقبل اليوم الاثنين أمير قطر لبحث إمكانية إمداد الدوحة لأوروبا بالغاز المسال في حال غزو روسيا لأوكرانيا، ووزير الخارجية الأميركي هاتف نظيره القطري قبل أيام لبحث ملفات من بينها أزمة أمن الطاقة في أوروبا، والبيت الأبيض يوفد مستشارين للدوحة لبحث تطورات هذا الملف والبحث عن حلول.
وقبل أيام نقلت وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، عن مصادر مطلعة، أن مسؤولي إدارة بايدن تحدثوا مع قطر حول إمكانية إمداد الدوحة لأوروبا بالغاز المسال في حال “غزت روسيا أوكرانيا”. وفي نوفمبر الماضي، تواصلت الحكومة البريطانية مع قطر بشأن دعم إمداداتها من الغاز.
لكن يبقى السؤال، هل في استطاعة قطر تلبية احتياجات أوروبا من الغاز في ظل اعتبارات مهمة أولها ارتباط الدوحة بتعاقدات ضخمة وطويلة الأجل مع دول آسيوية مستهلكة للغاز مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية وباكستان وبنغلاديش، وهي دول كثيفة الاستهلاك للطاقة وفرصها في النمو واستهلاك الطاقة يتزايد، وثانيها هو أن قطر بلغت الحد الأقصى من الإنتاج من الغاز المسال وتنتظر إتمام التوسعات الجديدة.
على العموم فإن الساعات المقبلة ستجيب عن تلك الأسئلة وغيرها.
* مصطفى عبد السلام كاتب صحفي اقتصادي
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: