روسيا والصين عاقدتا العزم على استمرار الصعود، وأن أمريكا نادمة على أنها لم تقف ضد هذا الصعود عندما كان ممكناً.
قمة جمعت الرئيس الصيني بالزعماء العرب في الرياض وموجة احتجاجات شعبية عارمة ضد قضايا عدة، في كل أنحاء أوروبا.
لاري دايموند أشهر متخصص في موضوع الديمقراطية يقرر أن الديمقراطية الأمريكية تعيش مرحلة كساد عميق ومتشعب وممتد.
من يعرف جامعة الدول العربية يدرك حقيقة أنها كيان رخو، وليست مؤسسة مرنة كما يخطر أحياناً على بال بعض الأكاديميين.
نجحت دولة عربية في استضافة مسابقة كأس العالم وصعود دولة عربية أخرى للمركز الرابع، وتهب مشجعة الاثنتين كل الشعوب العربية.
إعلان اليابان بأعلى صوت التخلي عن سلميتها والعودة للعسكرة وإعلان ألماني زيادة هائلة بميزانية التسلح لتصبح الثالثة بعد أمريكا والصين.
بزوغ مرحلة جديدة: دول تتقدم الصفوف لتشارك في صنع توازن قوى جديدة في العالم، وكلها غير واثقة من أنها تستطيع تحمّل تكاليف هذه الرحلة.
المستقبل بالنسبة لأمريكا يعني استمرار الأحادية القطبية وهيمنة مطلقة، وتصورت أمريكا أن روسيا بعد انفراط الاتحاد السوفياتي لن تقوى بشكل يهدد جاراتها.
* * *
بقلم: جميل مطر
وقعت تطورات خلال الأسابيع القليلة الماضية، تنذر بآثار لم تكن لتخطر أبعادها على بال صناع السياسة، قبل عقدين أو ثلاثة، أذكر هنا من هذه التطورات:
* أولاً، الطلب الذي تقدمت به المملكة السعودية للانضمام إلى مجموعة بريكس، التكتل الأغنى في موارد الطاقة والمال والبشر.
* ثانياً، إعلان اليابان، وبأعلى صوت، أنها تخلت عن سلميتها لتعود إلى عسكريتها.
* ثالثاً، الإعلان الألماني عن زيادة هائلة في ميزانية التسلح لتصير ألمانيا الثالثة في هذا المضمار بعد أمريكا والصين.
* رابعاً، المقال الذي نشرته مجلة «فورين أفيرز» الصادرة عن المجلس الأمريكي للشؤون الخارجية بقلم لاري دايموند أشهر من تخصص في موضوع الديمقراطية. يقرر المقال أن الديمقراطية في أمريكا تعيش مرحلة كساد عميق ومتشعب وممتد.
* خامساً، موجتان عالميتان إحداهما سلسلة من اجتماعات القمة حول كل الموضوعات في كل الأرجاء، منها مثلاً القمة التي جمعت بين الرئيس الصيني والزعماء العرب في الرياض. والموجة الأخرى احتجاجات شعبية عارمة ضد قضايا عدة، وفي كل الأنحاء الأوروبية.
* سادساً، نجحت دولة عربية في استضافة مسابقة كأس العالم وصعود دولة عربية أخرى للمركز الرابع، وتهب مشجعة للاثنتين كل الشعوب العربية.
كنا نعرف قبل وقوع هذه التطورات وغيرها، أن المستقبل بالنسبة لأمريكا كان يعني لها استمرار الأحادية القطبية وهيمنة مطلقة، وتصورت أمريكا وغيرها من الدول الكبرى أن روسيا بعد انفراط الاتحاد السوفياتي لن تقوى مرة أخرى إلى حد يهدد جاراتها في فنائها الخلفي، أو في غيره من الفناءات الآسيوية والأوروبية، أو في الشرق الأوسط وإفريقيا.
وخاب هذا التوقع حين قامت روسيا بمهاجمة أوكرانيا، أقرب الجارات إلي قلب موسكو، هذا الهجوم، إضافة إلى تطورات أخرى سابقة عليه ولاحقة له، راح يشارك في رسم معالم خريطة جديدة للسياسة الدولية.
بمعنى آخر، صار واضحاً للقريب والبعيد، على حد سواء، أن مرحلة جديدة على وشك البزوغ. دول تتقدم الصفوف لتشارك في صنع توازن قوى جديدة في العالم، وكلها غير واثقة من أنها تستطيع تحمّل تكاليف هذه الرحلة.
واضح أيضاً في الصورة أن روسيا والصين عاقدتا العزم على استمرار الصعود، وأن أمريكا نادمة على أنها لم تقف ضد هذا الصعود عندما كان ممكناً.
هي الآن غير قادرة على استعادة تفوقها المطلق والعودة إلي وضعها السابق في النظام الدولي قطباً أوحد بكامل صلاحيات القوة الأعظم المهيمنة. ويبدو الآن لأمريكا وللكثيرين، أن عودة الحال صارت من المحال.
لم نعرف بالدقة متى، وتحت أي ظرف دخل النظام الدولي هذه المرحلة الانتقالية، كما أننا لم نعرف بالدقة متى وتحت أي ظرف دخل النظام الإقليمي العربي حال التحول في بعض، أو لعله أكثر، هياكله الأساسية، وأهمها التحول في علاقات التناسب والتفاوت في الأوزان النسبية لأطرافه الرئيسية.
لا مبالغة كبيرة في القول إن العلاقات الدولية تعيش هذه الأيام في حال فوضى. وإحدى بوادر هذه الفوضى كثرة انعقاد مؤتمرات القمة، وإفراط كبار المسؤولين في تبادل الزيارات والتنقل بين الدول.
هذه البوادر تشير عادة إلى حال انضباط ورقي في العلاقات الدولية إن سادت في أوقات رخاء وسلام. أما أن تسود في أوقات التوتر والأزمات وفي أقاليم الوفرة، كما في أقاليم الفقر والعجز، فمعناه أن مختلف الدول صار يجمعها همّ واحد هو عدم الثقة في ما تخبئه لها الأيام المقبلة.
في ظل هذه الأجواء لا يسع الكثيرون، وأنا واحد منهم، إلا أن يتوقعوا أن دولاً ومؤسسات وعقائد سياسية ومبادئ لن تصمد طويلاً تحت ضغوط الحالة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي.
نرى أقاليم تتفسخ إلى تجمعات دون الإقليمية. وبعض هذه الأقاليم أسست في مرحلة من المراحل نظماً إقليمية فرعية اعتمدت في تأسيسها على وشائج ثقافية، أو حضارية، أو أيديولوجية.
ضعفت هذه الوشائج مع مرور الزمن وتحت ضغط عولمة متزايدة لجوانب بعينها من النظام الدولي، ثم بتأثير الصعوبات المترتبة عن انتشار وباء، أو كساد وتضخم مالي.
ولاحظنا أن العمل الجماعي في معظم أشكاله لم يعد يفي بمتطلبات الدول.
صار صعباً، على سبيل المثال، الحصول على إجماع، أو حتى توافق الأعضاء، على قرار أو سياسة واحدة، وإن حصل فلمدة وجيزة. ورأينا المشكلات تتجمع وتحيط بأداء الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ومجموعة الآسيان.
أصل إلى تخوّف واجب. الآن وأكثر من أي وقت مضى، ومع تصاعد إجراءات وعمليات التحول الجارية في النظام الدولي وداخل دول النظام العربي، صرت أخشى على جامعة الدول العربية، كمنظمة إقليمية، من تداعيات وقسوة ما ينتظرها من تحديات لا قِبل لها بمثلها.
ومن يعرف جامعة الدول العربية يدرك حقيقة أنها كيان رخو، وليست مؤسسة مرنة كما يخطر أحياناً على بال بعض الأكاديميين.
إن من اقترب بالدرس أو المشاهدة من المراحل الانتقالية في تطور العلاقات الدولية، لا شك يدرك مدى تعقّدها، وتعدّد احتمالات تحركها بمعدلات تتفوق كثيراً على معدلات الحركة في مؤسسات النظامين، الدولي والإقليمي العربي، في وضعهما الراهن.
أقصد تحديداً منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، ومؤسساتهما المتخصصة. كلها مهددة بالغرق في طوفان المرحلة الانتقالية، خاصة إذا هي قصّرت، أو أهملت في استشراف مستقبلها وتطوير إمكاناتها في ضوء ما استجد من متغيرات وتوازنات أفرزتها، أو ألقت عليها الضوء التطورات الأخيرة في الحالة الانتقالية.
*جميل مطر كاتب ومفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق
المصدر: الشروق – القاهرة
موضوعات تهمك:
هكذا يكمن قوّادون إسرائيليون للاجئات أوكرانيات لتشغيلهن في البغاء