كلما وقع حدث مفجع، كغرق المركب، تستحضر طرابلس مخزون حزنها على حالها، ورفضها لما آلت اليه أحوالها!
أُغرِقت طرابلس إذاً بكمٍّ هائلٍ من الفلوس والمخدرات والأسلحة والرصاص وحماية المعتدين! الموظفة لشراء الأزلام، ولدفعهم للعبث بأمنها اليومي.
تجديدٍ العلاقة الاستعمارية بين طرفين: مستعمِر غيَّر شكل استعماره، ووكلاء الاستعمار المحليون وبعضهم تسلق السلطة عبر “مناهضة الاستعمار”!
سواء أكان سبب غرق المركب خطأ ارتكبه طرّاد الجيش أو الصدفة وسوء حال مركب الهاربين وجشع المهرّبين، فالأمر سيّان.. مات كثيرون وهذا هو المهم.
لا تخترع طرابلس، الغريقة هي ذاتها، جديدا فقد سبقها كثرٌ من منطقتنا إلى هذا المشهد المريع منذ سنوات عديدة فلُقِّب البحر المتوسط بـ”أكبر مقبرة في العالم”.
* * *
بقلم: نهلة الشهال
تفقد الكلمات معانيها، تصبح بليدة تماماً أو مخجلة. فالجميع يعرفون الوقائع، ويعرفون كذلك ما تَكْشف. وسواء أكان خلف غرق قارب طرابلس منذ أيام خطأ ما ارتكبه طرّاد الجيش الذي لاحقه، حماقةً من قائده أو تعنتاً بقصد إعلاء أوامره – وهو مما يجب استجلاؤه بالطبع – أو كانت الصدفة وسوء الحظ وسوء حال مركب الهاربين، وجشع المهرّبين الخ.. هي السبب، فالأمر في العمق سيّان. لقد مات كثيرون، وهذا هو المهم.
لا تخترع طرابلس، الغريقة هي نفسها، جديداً. سبقها كثرٌ من منطقتنا – وسواها – إلى هذا المشهد المريع، وذلك منذ سنوات عديدة بحيث لُقِّب البحر المتوسط بـ”أكبر مقبرة في العالم”.
وأنشأت الدول الأوروبية شرطة خاصة لردع المهاجرين والهجرة غير النظامية أسمتها “فرونتكس”، وعقدت اتفاقيات مع سلطات محلية بشعة ومجرمة، بغاية حملها على تولي المهمة على الأرض قبل الماء، ثم في الماء، ودفعت مبالغ طائلة لها ووعدتها بتبرئتها من كل إثم سابق ارتكبته، أو لاحق سترتكبه، متى ما تكفّلت بالمهمة وأبعدت “الخطر” عن حدود أوروبا وشواطئها.
وبالمقابل، ابتزت هذه السلطات السادة الأوروبيين كلما احتاجت لأمرٍ، في تجديدٍ للعلاقة الاستعمارية بين الطرفين: مستعمِر غيَّر شكل استعماره، ووكلاؤه المحليون وبعضهم تسلق إلى السلطة عبر “مناهضة الاستعمار”! وهكذا فالقواعد “الجديدة”، ليست جديدة تماماً.
حافظت طرابلس على بقايا فخرٍ مستمدٍ من تاريخها العريق ومكانتها ودورها الماضي، وحافظ أهلها على حب كبير لها لجمالها ووداعتها، إذ وكما هو معروف، فخصائص الأماكن تَنسج إلى حد كبير مزاج السكان. وتُوفِّر طرابلس بيئة بقيت متماسكة، “مجتمعاً” كما يسمى، رغم ما لحق بالمدينة: من هجرات أريافها البائسة إليها
وهو مسار طبيعي في كل المدن، ولكنّه كان مرهِقاً لطرابلس لعجزها عن استيعابه بسبب مرضها الشديد هي نفسها. والتهميش المقصود والمحسوب، ومحاولات الإذلال والإفقار والإغراق بشتى أشكال التخلي تارة، والاضطهاد والعسف والعنف تارة أخرى.
حدث هذا على يد الجمهورية اللبنانية الفتية، ثم خلال السيطرة السورية على البلاد التي كانت قسوتها خاصة على طرابلس لشبهِها بمدن سورية يُراد سحقها كحماة وحمص، وبعد ذلك بإشاعة أنها “قندهار” وهي سخافة عزّز فبركتها الإعلامية التحذير من زيارتها الذي ما زال موجوداً في بيانات سفارات الدول الغربية في بيروت. ظلمٌ صافٍ لا يوازيه شيء.
لذا فكلما وقع حادث أليم، كغرق المركب، تستحضر طرابلس مخزون حزنها على حالها، ورفضها لما آلت اليه أحوالها. ولكنّ المدينة المتمردة أُغرِقت:
– من قبل “زعمائها” عديمي الطموح إلا لمفهوم متخلف لزعامة واهية (وعلى دربهم يسير المتنطحون لزعامتها وفق التقليد نفسه)،
ومن قبل الأجهزة الامنية المتصارعة والمنخورة بالفساد.
أُغرِقت إذاً بكمٍّ هائلٍ من الفلوس (والمخدرات والأسلحة والرصاص وحماية المعتدين!) الموظفة لشراء الأزلام، ولدفعهم للعبث بأمنها اليومي.
ولأن كمية البائسين كبيرة هي الأخرى، ولأنهم بلا أيّ أفق محتمل لحياتهم وبلا أيّ حلٍ لجوع عائلاتهم، وبلا أيّ رجاء.. تبدو المهمة ميسرة!
ولعل ذلك يفسر انفجار غضب طرابلس بكل أهلها في 2019، وفرحهم إذ استعادوا في تلك اللحظات وجهها كما يحبونه: غاضبٌ بِرُقيّ ووعيّ وانفتاح! وهو ما أرعب أولئك الأوغاد!
…لا نملك، وحال البلاد عموماً هي على ما نعرف من خرابٍ مكين، إلا أن نحب طرابلس أكثر ونتعلق بها أكثر، فهي أكثر من سواها تشبه في مصائرها مجمل منطقتنا.
* نهلة الشهال أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير “السفير العربي”
المصدر: السفير العربي
موضوعات تهمك: