المستشار طارق البشري الذي رحل عن عالمنا قبل يوم واحد، حديث المجتمع المصري الأبرز بكافة أطيافه وأديانه، فالرجل لا يعتبره الكثيرون مجرد مفكر إسلامي، وإنما كان قامة فكرية وطنية، جعلت منه واحدا من أولئك النادرين الذي اجتمع عليه القاصي والداني في مصر (أولئك الذين رحلوا دون هيستريا التخوين أو التكفير أو الاتهام بالإرهاب والردود المضادة) مسيرة فكرية استدعت إظهار الاحترام والحديث عن الدروس وانتقاد المآخذ.
كان للمرحوم طارق البشري علاقة خاصة ووطيدة تجمعه بالأقباط وخاصة البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، الذي كان “يبجله بشدة ويهابه ويحترمه ويقدره”، وفقا لما ذكره الكاتب الصحفي محمود سلطان، الذي قال في مقطع مصور له ينعي فيه الراحل، قائلا: “البابا شنودة دائما ما كان يهاب المستشار البشري، وكان قريبا منه وصديقا له، ودائما ما كان لدى البابا كرسي آخر بجانبه هو دوما محفوظ لصالح المستشار البشري”.
وهنا نوضح لماذا بجل البابا شنودة المستشار طارق البشري وبجله وكل أقباط مصر كذلك.
طارق البشري والجماعة الوطنية والأقباط
في كتابه “المسلمون والاقباط في اطار الجماعة الوطنية”، لخص السيد طارق البشري ونظر للأقباط أنفسهم أدوارهم في السياسة المصرية وحكم الدولة، وهو ما لاقى تقديرا كبيرا من أعلى رأس قبطية في مصر والعالم العربي، وهو البابا شنودة.
يجاول المستشار طارق البشري في الكتاب أن يكسر الزجاج المعتم بين الأقباط وكون مصر دولة مسلمة، ولعل أبرزها يتعلق بالمخاوف من عدم المساواة، إنه يبين أن الأزمة تتعلق بحذر الأقباط من عدم المساواة بسبب الشريعة الإسلامية، وأن الأزمة في موقف التيار الإسلامي من المواطنة الذي يؤكد من خلال كتابه أنها ليست خلاف ولكنها نقطة حوار وجدل بين التيار القومي المصري عامة (ليس الأقباط فقط ولكن كافة التيارات المدنية والقومية بما فيهم الأقباط) والتيار الإسلامي.
كما يتطرق المفكر طارق البشري في كتابه أيضا للمساواة كأساس للوطنية الجامعة وأصل أيضا لأحد أهم أفرعها وهو المشاركة في العمل العام والسياسي منه بشكل خاص، مؤكدا على أن موضوع المشاركة تلك ليس خاصا بالأقباط فقط ولكن بالمصريين ككل متساو.
وفي الكتاب ذاته بين الراحل، رؤيته للأقباط كأقلية دينية وفقط، محذرا من تحولها إلى جماعة سياسية مغلقة، مؤكدا على أن الشريعة ما هي إلا حق الأغلبية في التقرير، وهو ما لا يبنى عليه أي تقليل أو تقزيم للأقباط سياسيا، بل إنه بنفسه قد ضرب مثالا بدستور عام 1923 الذي رفض فيه تمثيل الأقباط بجملة “القبط” كتمثيل نسبي، وقد رفضت لهذا السبب وهو ألا يكون المسيحيون في مصر مجموعة سياسية مغلقة تعتبر أقلية لا أمل لها في أن تصبح أغلبية، وهو على العكس تماما من الأقليات السياسية التي يمكنها أن تتحول إلى أغلبية.
وقد ابتع تلك القضية بنقطتين هما الأهم: هي ان كل مواطن لا شئ له سوى ضمان المساواة والمشاركة، خاصة في أمور الحكم والسياسة والاقتصاد وهي شائعة بين المواطنين يقرون ما فيها وفقا لحوارهم وما اختلفوا اتفقوا فيه هو القضية.
أما النقطة الثانية فتتعلق في ان رفض الشريعة الإسلامية، يرجح نظام قانوني آخر لا علاقة له بالبيئة التي يوضع فيها ولا رابط له بتاريخ الشعب وتراثه، قائلا: “لا وجه لترجيح نظام وافد على نظام موروث لمجرد أن الأقلية تأبى ذلك على الأغلبية”.
وأشار إلى أن الحجة الوجيهة التي تقول أن الاقباط يرفضون الشريعة الإسلامية كمادة دستورية، لكونها شريعة دين آخر، لكنه في تلك القضية رد بأن تلك الشريعة ما هي إلا للأسباب الموضحة سلفا، وفي الوقت ذاته فإنها لسبب أن الإنجيل لا يحمل أي تشريعات أو قوانين، وأن المسيح لم يضع هذا النظام التشريعي، مستشهدا بحديث الأب متي وأنه لم يتم الجمع قط بين مملكة الله ومملكة الأرض، فلم يهتم المسيح بوضع قوانين مدنية، وفي حال حاولوا المزج بين المملكتين فإن المسيحية تفقد مذهبها على حد قوله. وفي هذا الشأن يقول: “وبقدر ما كانت تتخلص من أعدائها بحد السيف، بقدر ما كان يسلط عليها السيف”.
وإن كان في هذا الباب الكثير من الجدل، وهناك خلافات في الرأي مع تلك القضية بالذات في أصله، أو خلافات حول آليات تطبيقها وحدود “الشريعة” الدقيق وليس على نطاقها الواسع والمصطلح الفضفاض الذي استخدمه المفكر الكبير طارق البشري في الرد على الحجة القوية، إلا أنه فتح النقاش للحديث في نقطة شديدة الحرج لم يسبق لأحد أن تحدث فيها بتلك القوة، ليفتح الباب للحديث عن المحظور الوطني خوفا من فتنة “الغسيل” كما كان يوصفها الراحل أنور السادات.
يؤخذ على البشري أيضا الجدال إلى مسائل الحدود والمقارنة بين العقوبات البدنية في الإسلام، وما أورده بن العسال، حيث اعتبر أن وجود تشريع مسيحي أورده مفكرون قبطيون، معني بالعقاب باستخدام الإيذاء البدني مبررا للاستمرار بالتشريع الاسلامي في العقاب بنفس الفعل، وهو ما يحدث جدلا حقوقيا واسعا، لكنه لا ينفي التقدير القبطي لتلك المجادلة، وابراز مدى تأثر المفكرين المسيحيين بأصول الفقه الاسلامي من دلالات النص ومصادره وشروط الاجتهاد، مشيرا إلى ما ورد في الباب الواحد وخمسين من ا”لمجموع الصفوي – كتاب القوانين الكنائسية لكنيسة الأقباط الأرثوذكسيين – للشيخ الصفي أبي الفضائل بن العسال”، وهو الكتاب الكنسي الوحيد المنشور فيما يخص المعاملات، من قول ابن العسال، أن “يمكن للرئيس (البطريرك) أن يزيد أو ينقص وفقا لمقتضى المصلحة في زمانه”.
موضوعات تهمك: