سياسية أمريكا الخارجية.. نموذج متكامل لفشل متكرر
- رغم كل أخطائها لا تستطيع أي دولة أخرى لعب الدور الأمريكى أو أن تحل محلها فى القيادة.
- تفشل وتتعرج سياسات أمريكا الخارجية كثيرا، إلا أن ذلك يعكس بوضوح فشل واشنطن ونخبة سياستها الخارجية.
بقلم: محمد المنشاوي
يتحدث لى دبلوماسى روسى يعمل فى سفارة بلاده فى واشنطن ويقول «المعضلة الحقيقية فى علاقتنا بالولايات المتحدة محورها اعتقادهم أن الحرب الباردة انتهت بانتصارهم وبهزيمتنا، وعليه يتبنون سلوك المنتصر ويتوقعون منا سلوك المنهزمين». وأضاف: «نحن نرى أن الحرب الباردة انتهت دون إطلاق نار، وبدون منتصر ولا منهزم».
وقبل ثلاثة عقود، فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى وتحقيق الوحدة الألمانية وانهيار حائط برلين، أعلن الرئيس الأسبق جورج بوش بدء حقبة «النظام الدولى الجديد» كمرحلة جديدة فى النظام العالمى بديلا عن النظام الذى ساد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وعرف بنظام القطبية الثنائية.
اقرأ/ي أيضا: محاكم التفتيش الحديثة
ورأى الكثيرون حول العالم أن بوش قصد الإشارة لنظام قطبى أحادى قائم على الترويج لقيم الديمقراطية الغربية المعتمدة على اقتصاديات السوق الحرة. وعرفت الكثير من دول العالم ما أُشير إليه «بالموجة الثالثة من الديمقراطية».
ودفع ذلك كتاب ومفكرين من عينة توماس فريدمان وفرانسيس فوكوياما وصامويل هنتنغتون إلى أن البشرية لم يعد أمامها إلا أن تتبنى ديمقراطية السوق الحرة الرأسماليةالقائمة على احترام سيادة القانون واحترام الحريات السياسية الفردية والجمعية وحقوق الإنسان كقيم لا تنازل عنها. ولم تواجه الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتى تحديات استراتيجية أو منافسة كبيرة.
اقرأ/ي أيضا: سوق كوشنر التي تبيع الأوهام بالمليارات
* * *
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، وعلى الرغم مما شهده العقد الأخير من وجود رئيسين، الديمقراطى باراك أوباما والجمهورى دونالد ترامب، فقد نادى كلاهما بضرورة لعب دور أمريكى أقل وتقليل الوجود العسكرى فى الشرق الأوسط بصورة أو أخرى، إلا أن الالتزام الأمريكى بأمن المنطقة لم يتغير. نادى أوباما بضرورة التركيز على القارة الآسيوية والتوجه لمحور آسيا أو Asia Pivot.
وقال أوباما فى مقابلته الشهيرة مع مجلة أتلانتيك «إنه من الأفضل تجنب الشرق الأوسط، وليس علينا أن نلتزم بالتورط فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا». وعكس هذا التوجه اهتماما مبررا بصعود الصين السريع وتهديدها المباشر لمصالح واشنطن وحلفائها فى القارة الآسيوية، ومثل كذلك يأسا من صعوبة تعريف واشنطن لمفهوم الانتصار أو الإنجاز فى قضايا الشرق الأوسط المعقدة.
اقرأ/ي أيضا: خفايا الحملة الصليببية لترامب
وتورطت واشنطن بدون انتصار أو حسم سواء فى أفغانستان لأكثر من 18 عاما، والعراق لأكثر من 15 عاما، هذا إضافة لعدم تحريك ملف سلام الشرق الأوسط خلال العقد الأخير.
من ناحيته نادى الرئيس ترامب بمبدأ «أمريكا أولا» والذى تضمن تبنيه استراتيجية الضغط على الدول العربية للقيام بالمزيد تجاه قضايا المنطقة عن طريق توفير الموارد المالية والبشرية والعسكرية.
وخلال خطاب حالة الاتحاد الأخير انتقد الرئيس ترامب سجل بلاده فى قضايا الشرق الأوسط منوها بأنها «باتت تقاتل فى الشرق الأوسط منذ 19 عاما تقريبا، وتسبب ذلك فى مقتل ما يقرب من سبعة آلاف عسكرى أمريكى ونحو 52 ألف من الجرحى والمعاقين، وتكلفة تقدر بسبعة تريليونات دولار».
اقرأ/ي أيضا: فى مواجهة التهويد العنصرى للقضاء على الحضارة الفلسطينية
من ناحية أخرى يمثل التواجد المتزايد لروسيا فى المنطقة سببا آخر للرغبة الأمريكية فى ضمان تأسيس مظلة أمنية شرق أوسطية جديدة تشرف عليها واشنطن.
ويقترن التواجد الروسى فى سوريا بعلاقات تتطور بين موسكو وطهران، إضافة لخروج تقارير مختلفة تشير إلى رغبة دول حليفة لواشنطن فى الخليج فى مد جسور التعاون العسكرى مع روسيا للحصول على أحدث نظم الدفاع الجوى الروسية “إس 400”.
* * *
تدفع الذكرى الأربعون للثورة الإيرانية التى تحل هذا الأسبوع، إضافة لموقف واشنطن من إيران منذ 1979 وحتى اليوم لمحاولة فهم سلوك القوة الأكبر فى عالم اليوم ضد ثورات شعبية كان لها ما يبررها.
اقرأ/ي أيضا: عباس وخطاب الهزيمة.. تجريب المجرّب وموقف القبيلة
وجمع واشنطن بطهران حالة عداء مستمرة منذ أربعين عاما دون ظهور أى أفق لتحسين العلاقات بين الدولتين، بل من السهل توقع تعرض تلك العلاقات لتوترات قريبة.
ونفس المنطق حكم علاقة الولايات المتحدة بدولة كوبا المجاورة لها، تلك الجزيرة التى هبت فيها ثورة مبررة قبل أكثر من ستين عاما، وناصبتها واشنطن العداء حتى يومنا هذا مع استثناء بعض سنوات من حكم الرئيس باراك أوباما.
حاول أوباما ونجح فى تطبيع العلاقات مع كوبا، وزار هافانا ورفع العقوبات عن الجار الشيوعى الصغير، ثم توصل للاتفاق النووى مع إيران.
ولم تناصر واشنطن ثورات الشعوب الثائرة على القهر والظلم والطغيان، إلا إذا اقترن ذلك بعداء واشنطن المسبق لهذه النظم، وتوفر التجارب العربية نماذج متعددة فى هذه الحالة سواء فى التجربة السورية أو التجربة المصرية.
* * *
اقرأ/ي أيضا: عدنان الأسد جاسوسا لإسرائيل.. كيف أخفى “قصر حافظ” الفضيحة؟
فى خطابه الأول خلال مراسم تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة قبل عامين، دشن ترامب مرحلة جديدة مختلفة عما ألفته واشنطن من سياسات خارجية اتفقت عليها الإدارات الديمقراطية والجمهورية.
نادى ترامب بسياسة شعبوية ترتكز على شعار «أمريكا أولا»، معتمدة على صبغة تلائم القرن الواحد والعشرين، مركزة على قصور وسلبيات ونتائج ظاهرة العولمة التى وجهتها وقادتها بالأساس الولايات المتحدة. أعاد ترامب فرض العقوبات على كوبا.
وانسحب من الاتفاق النووى مع إيران، وفرض عقوبات تجارية غير مسبوقة على حلفاء واشنطن التجاريين حول العالم. انسحب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ وانسحب من اتفاقية التجارة الحرة مع دول المحيط الهادى، كما سخر ترامب من وجود واستمرار حلف الناتو وهاجم الأمم المتحدة.
ويفاوض ترامب تنظيم طالبان من أجل خروج مقبول من أفغانستان، كما بدأ فى تقليص الوجود العسكرى الأمريكى فى شمال سوريا، ويبحث تخفيض الوجود العسكرى فى العراق.
اقرأ/ي أيضا: هل زيارة البابا للإمارات هي استمرار لأساسيات وسياسات الحروب الصليبية الغربية
* * *
يمكن النظر لسياسة أمريكا الخارجية ورؤيتها فى نموذج متكامل لفشل متكرر فى التخطيط والإعداد والتنفيذ. لكن لا ينفى ما سبق أهمية الولايات المتحدة للعالم، وعلى كل أخطائها، لا تستطيع أى دولة أخرى لعب الدور الأمريكى أو أن تحل محلها فى القيادة.
اقرأ/ي أيضا: تعريف الطائفية والزعماء الطائفيين
نعم تفشل وتتعرج سياسات أمريكا الخارجية كثيرا، إلا أن ذلك يعكس بوضوح فشل واشنطن ونخبة سياستها الخارجية، أما ما يترك أمريكا قائدة للعالم فهو ما تشهده بقية مراكز القوة من نجاحات لا تتوقف سواء فى القطاعات التكنولوجية بسان فرانسيسكو أو العلمية البحثية بشيكاغو أو الأكاديمية ببوسطن والفنية والمالية بنيويورك والثقافية بلوس أنجلوس.
* محمد المنشاوي كاتب صحفي في الشؤون الأمريكية من واشنطن.
المصدر: الشروق – القاهرة
عذراً التعليقات مغلقة