بقلم: أكرم البني
يتفق الكثيرون على أن سوريا تمر اليوم بمرحلة حساسة ومصيرية من تاريخها، وأن خطة كوفي أنان تسير نحو الفشل والإخفاق، فاتحة الأبواب على احتمالات متنوعة وعلى اجتهادات شتى في قراءة آفاق الحالة السورية ربطا بما قد يستجد من تطورات داخلية ومن مواقف عربية ودولية مؤثرة.
ثمة من تحكمه روح التشاؤم ويعتقد باستمرار حالة الاستنزاف والاستنقاع فترة طويلة، مرجحا تكرار المشهد المزدحم بمظاهرات شعبية تمتد وتتسع في المساءات والليالي وأيام الجمع، وتجر خلفها مزيدا من الضحايا، وبقوات أمنية وعسكرية تنتشر في كل مكان ولا توفر وسيلة من وسائل القمع لمحاصرة حراك الناس وإعادة السيطرة على المناطق المتمردة!
العجز عن الحسم واستمرار الاستعصاء هو احتمال قائم، مع تصميم أهل السلطة على منطق القوة والغلبة ورفض الامتثال للحلول السياسية، وما يزيد هذا الاحتمال حضورا، ضعف المعارضة السياسية التي لم تنجح حتى الآن في رص صفوفها وتشكيل حضور وازن يرفد الحراك الشعبي ويمكنه، وأيضا تأخر حصول تحول في موقف الفئات السلبية أو الصامتة واستمرار إحجامها عن الدخول على الخط وتثقيل كفة الثورة، بعضها لتصديقه وعود النظام ونياته الإصلاحية وبعضها لخشيته على حقوقه ومصالحه، ومما يثار عن وجود قوى متطرفة أو سلفية تتحين الفرصة للاستحواذ على السلطة والإجهاز على المجتمع، وفرض أجندتها عليه. في المقابل، ثمة من لا يرى فرصة لاستمرار هذا المشهد الرتيب، فتوغل السلطة في عنف أعمى لا يعرف حدودا، وسحقها لأبسط أشكال النضال السلمي والمدني، ثم نفاد صبر المتظاهرين وتراجع قدرتهم على التحمل، وإذا أضفنا فقدان الأمل بأي حل سياسي أو بدور عربي أو عالمي يمكنه أن يوقف العنف ويعترض هذا الاستخدام المفرط للقوة، فإننا نقف أمام أهم الأسباب التي تدفع الناس نحو مسار جديد، نحو تغليب منطق القوة ولغة العنف والسلاح، تعززه الانشقاقات المتواترة في صفوف القوات النظامية، وانتقال الحضور المسلح من حالة الدفاع عن النفس، وحماية أماكن التظاهر إلى شن هجمات على بعض المواقع والحواجز العسكرية، مما ينذر بفتح الباب أمام صراعات أهلية، تعيد بناء الاصطفافات بصورة غير صحية وتضع البلاد على مشارف طريق خطرة ومدمرة.
هناك من لا يستبعد تدخلا خارجيا حاسما يقرر مصير الأوضاع السورية، لكن بعد أن تسقط كل الرهانات على خطة كوفي أنان، وتمر الانتخابات الأميركية بسلام، عندها ربما تتوفر فرصة كبيرة لإنجاز تسوية بين الأطراف الدولية الرئيسية، خاصة أميركا وروسيا، تصوغ مشروع تغيير سياسي في البلاد يفرض فرضا على نظام وصلت أموره حد الاهتراء، وربما يأخذ شكل تدخل عسكري رادع تحت مظلة الأمم المتحدة لحماية المدنيين شريطة استمرار تعنت النظام السوري، ووصول موسكو إلى حرج وقناعة بأنه استنفد كل الفرص وتمادى في لعبة كسب الوقت، وفي استخدام عنف مفرط لم تعد تحتمل تغطيته سياسيا وأخلاقيا.
لكن ما يخفف الاحتمال العسكري هو تكلفته في بلد لا يمتلك ما يكفي من موارد للتعويض والأهم خطورته، وأن اللجوء إليه قد يفضي إلى زعزعة استقرار المنطقة برمتها، فالمرجح أن تمتد المعركة وتتسع رقعتها مع دخول حلفاء النظام السوري في المعمعة.
وهناك أيضا من يراهن على حصول تغير في تركيبة السلطة نفسها أو في موقع اتخاذ القرار، ففشل خيار العنف في إخماد الاحتجاجات وما خلفه من إنهاك للقوى العسكرية والأمنية، ثم دور العقوبات ضد بعض المسؤولين وتصاعد حدة الضغوط العربية والدولية الراغبة في تنشيط الحلول السياسية، هي عوامل يمكن أن تفضي إلى تفكيك الدائرة الضيقة المتمسكة بالحل الأمني، وتسمح بتبلور قوى عسكرية ومدنية من داخل بنية النظام نفسه تزداد قناعة بضرورة وقف العنف والالتفات إلى معالجات من طراز مختلف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقد تتجه إلى ما يعرف بصفقة تاريخية مع المعارضة السياسية والقيادات الميدانية للمحتجين، تضع البلاد على أبواب مرحلة انتقالية يتشارك فيها الجميع في التحول نحو الدولة المدنية الديمقراطية.
لكن هذا الاحتمال يبقى ضعيفا، ليس فقط لأن دوائر السلطة لا تزال متماسكة ولم تفرز إلى الآن وجوها لها تأثير ونفوذ مميزان، وتتجرأ على المجاهرة بضرورة وقف الخيار العنفي واللجوء إلى المعالجة السياسية، وإنما أيضا لأن النخبة الحاكمة نجحت في خلق شبكة متينة من المصالح المشتركة بين مراكز القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية يصعب الرهان على خلافات ذات معنى في صفوفها.
ويبقى من يعتقد باحتمال لجوء النظام السوري لسياسة الهروب إلى الأمام عبر تصدير أزمته إلى بلدان الجوار؛ لبنان وتركيا مثلا، أو تسخين أجواء الحرب مع إسرائيل، والرهان على ذلك في إعادة خلط الأوراق، ويجد هؤلاء أنها عادة أصيلة لدى الحكم السوري، بأنه في كل مرة تتصاعد فيها مشكلاته الداخلية يلجأ إلى افتعال أحداث في أحد بلدان الجوار أو تسخين الخطاب الهجومي ضد إسرائيل على أمل خلق مناخات ضاغطة على الناس للانكفاء ومنح الأولوية للأحداث الخارجية على حساب التحديات الداخلية، لكن تبدو هذه السياسة اليوم أشبه باللعب بالنار، فانتقال الأزمة إلى بلدان الجوار قد يرتد عليه ويزيد الأوضاع السورية تفاقما، ويرجح إن استجرت إسرائيل إلى معركة أن ترد بضربات حاسمة من شأنها أن تهز هيبة النظام وتحرمه ما تبقى من قدرة على السيطرة، ولكن تبقى فرص هذا الخيار قائمة وتزداد طردا مع وصول أهل الحكم إلى درجة من اليأس قد تدفعهم لخوض الصراع «إما قاتلا أو مقتولا»!
أخيراً لا يخفى على أحد أن الاحتمالات السابقة ترتبط جميعها بخيط واحد هو الإنكار السلطوي لحتمية التغيير السياسي والإصرار على التوغل أكثر في العنف والتنكيل التعسفي ضد شعب يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد استثنائي للتضحية من أجل نيل حريته وكرامته!