كان للعراق في اواخر سبعينات القرن الماضي عندما كان دولة حقيقية، مدرسة كبيرة في قلب العاصمة الفرنسية بالدائرة 16 احد ارقى الاحياء الباريسية.
وقد كانت تلك المدرسة التي تشرف عليها وزارة التربية العراقية اشرافا مباشرا وتنتدب لها افضل مدرسيها، ولم تكن مخصصة للطلاب العراقيين فحسب بل كانت تعدّ قبلة للطلبة العرب من ابناء السلك الدبلوماسي لسفارات الدول العربية والاسلامية اضافة الى عدد كبير من ابناء المقيمين والعاملين العرب في باريس. وعلى غرار المدارس الاجنبية الشهيرة المنتشرة في بعض الدول كالمدارس الامريكية والانكليزية، كانت المدارس العراقية واهمها مدرسة باريس تعدّ صروحاً علمية معتبرة للدراسات الاولى (الابتدائية والمتوسطة والاعدادية) لرصانتها والتزامها اضافة لمجانية التعليم فيها.
ويبدو ان الحكومة العراقية وقتها (الديكتاتورية طبعاً) وهنا اقصد نظام صدام حسين ارادت ان تكون تلك المدرسة وجها حضاريا يعبّر عن رقي الدولة فاختارت ان تشتري لها بناية رائعة باهضة الثمن في ارقى احياء باريس وحرصت ان تكون بناية كبيرة بحديقة فسيحة كي يكون للطلبة مساحتهم المريحة اثناء الفرص بين الدروس، على الرغم من غلاء الأرض في تلك البقعة.
وكحال كل المباني والاملاك والعقارات والمصالح العراقية في الخارج بعد 2003 التي اهملت وتركت، اغلقت المدرسة العراقية لسنوات طويلة بدون سبب او داع سوى اهمال وزارة التربية ووزارة الخارجية معا لهذا الصرح العلمي العراقي الجميل (لان الجميع كان مشغولا بالخمط والسرقة والعمولات والصفقات والقتل )، لذلك تراكمت عليها الضرائب والرسوم لسنوات عديدة حتى بلغت نصف مليون يورو (وهو مبلغ زهيد جدا قياسا الى قيمة مبنى المدرسة وحديقتها الثمينة، وهو في الوقت ذاته مبلغ تافه بالقياس الى ميزانية الدولة العراقية )، الا ان ابناء الشياطين والافاعي من السياسيين والمسؤولين اللصوص الذين لم نحظ بشريف واحد منهم حتى الآن، لم يكونوا ليدعوا هذا الصيد الثمين يفلت منهم، متخذين من (مهزلة) الديون المتراكمة المشار اليها آنفاً ذريعة لبلع هذا العقار، فوضعوا خطة محكمة لسرقته مع الوزير الفاسد المرتشي محمد اقبال الصيدلي عضو الحزب الاسلامي، والذي يعدّ بحق اسوأ واسفل وزير تربية في تاريخ العراق، بالتعاون مع نصّاب حرامي مثلهم اسمه احمد عبد الله عساف العبيدي (لاحظوا هنا ان السياسيين الشيعة يتعاونون مع لصوص شيعة والسياسيون السنة يتعاونون مع لصوص سنة، ترسيخاً لعدالة نظام المحاصصة حتى في السرقات)!
وكانت الذريعة التي اتخذوها غطاءً لبلع المدرسة هي عقد مساطحة (ايجار طويل الامد مع حق اقامة اي بناء عليه)، ولكنه هذه المرة عقد مساطحة شيطاني حيث جعلوا مدة العقد 35 سنة!
وهذا يتيح لهم تملك العقار تملكاً كاملا حسب القانون الفرنسي، اي ان هذا النوع من الايجار ينتهي بالتملك بدون ان يدفعوا اي شئ للحكومة العراقية!
والمصيبة الاخرى ان قيمة ايجار هذه الارض (الحديقة) كان 100 الف يورو سنويا فقط!
وهو مبلغ زهيد تافه جدا لايمكن ان يؤجروا فيه عشرين متراً مربعا في ذلك الحي، وبالطبع سيدفع ايجار السنوات الخمس الاولى لتسديد الرسوم المتراكمة على المدرسة!
يعني العراق مسح ايده بالحايط من هذي الصفقة الحقيرة.
لم يكتف اللصوص بارض حديقة المدرسة والتي يبدو انها كانت المرحلة الاولى من تلك السرقة، اذ سرعان ما الحقوها باستئجار مبنى المدرسة كله وبنفس الشروط السابقة (مساطحة 35 سنة) ولنفس المستثمر اللص وحولوها الى غرف فندقية!
وحين تأكدوا بعد تمرير هاتين السرقتين الكبيرتين بهذه السهولة واليسر، ان الحكومة العراقية نائمة ورجليها بالشمس وان الوضع عضروطي جدا وان الشغلة كلها (ضارطة) وليس هناك من صدّاد ولا ردّاد، سرعان ماتحولوا لسرقة اخرى لاتقل دسامة عن الاولى وهي مبنى المستشارية الصحفية العراقية في باريس ايضا، والذي كان في الثمانينات احد اهم المراكز الصحفية العربية هناك، وقد استولوا عليه بنفس طريقة التعاقد ونفس المدة الجائرة وببدل ايجار تافه كسابقتيه!
ترى لماذا تصمت الحكومة التي قيل انها جاءت للاصلاح ومحاسبة اللصوص، عن مثل هذه السرقات الكبيرة التي تقدر بمئات ملايين الدولارات؟
واين هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية ومجلس النواب ولجنة النزاهة التي يصدّع اعضاؤها رؤوسنا كل يوم بملفات فساد كثيرة تظهر ثم تختفي بقدرة قادر بدون محاسبة اللصوص وعقابهم؟
واين السلطة القضائية من هذا الخراب وهذا المخالفات والسرقات التي يطالها ويعاقب عليها القانون؟ اين الادعاء العام ممثل حقوق الشعب؟
والسؤال الأحق هو : اين الشعب؟ النائم الصامت المستخذي الضعيف المستسلم المقتول جوعا وفقرا ومرضاً من هذا الذي يجري؟
أما آن الأوان لكي تطالبوا بحقوقكم ووطنكم الذي يباع يوميا في سوق الفرهود. والله عيب.
الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الساعة 25
موضوعات تهمك: