روسيا تشكل الأجندة العربية في زيارة الرئيس السوداني لسوريا

محمود زين الدين12 يناير 2019آخر تحديث :
باتت سياسة السودان الخارجية مناورة بين متناقضات ومحاور إقليمية ودولية
باتت سياسة السودان الخارجية مناورة بين متناقضات ومحاور إقليمية ودولية

روسيا تشكل الأجندة العربية في زيارة الرئيس السوداني إلى سوريا

  • لا يمكن عزل زيارة البشير لسوريا عن الأجندة الروسية المنسقة مع دول عربية بالمنطقة.
  • موسكو تسعى لتسويق نموذجها السوري عربيًّا على حساب النفوذ الأميركي المتراجع.
  • ومن شأن نجاح البشير في فتح الطريق للتطبيع العربي مع سوريا أن تُفتح أبواب موسكو أمام الخرطوم.

 

بقلم: خالد التيجاني النور

في خطوة مفاجئة، أدى الرئيس عمر البشير، في السادس عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول 2018، زيارة عمل إلى دمشق لإجراء محادثات مع الرئيس السوري بشار الأسد، هي الأولى من نوعها لرئيس دولة عربية منذ أن علَّقت جامعة الدول العربية عضوية دمشق في المنظمة في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 بعد أشهر من اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية في بواكير حقبة الربيع العربي.

أثارت زيارة الرئيس السوداني لسوريا الكثير من التكهنات حول دوافعها، والملابسات التي رافقتها في ظل شواهد عديدة تشير إلى بروز معطيات جديدة بشأن تحولات مهمة ومتغيرات جيوسياسي إقليمية ودولية تتأهب لإعادة حساباتها بما ينبئ عن إعادة ترتيب درامي لخارطة التحالفات والمحاور السياسية في المنطقة، بعد حقبة قصيرة سادت في حقبة زلزال الربيع العربي وتوابع هزاته الارتدادية التي خلطت أوراق اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين على حد سواء.

ومع تباين التحليلات حول خلفيات الزيارة ودوافعها، ما إذا كانت مبادرة سودانية محضة أم جاءت مدفوعة بأجندة قوى خارجية، إلا أن ثمة اتفاقًا على أنها مثَّلت نقلة نوعية فيما يخص تحريك الجمود السوري عربيًّا وتأهيله للتطبيع، لاسيما عند قراءة ردود فعل بعض الدول العربية التي توالت بعد الخطوة، في ضوء لجوء عدد من العواصم إلى إعادة حسابات موقفها من الوضع في سوريا بما يدع الباب مفتوحًا على الاحتمالات كافة، من المسارعة إلى التطبيع دبلوماسيًّا مع دمشق إلى إعادة تشكيل الاصطفافات في لعبة المحاور بالمنطقة.

 

ماذا جرى في المحادثات؟

أعرب البشير عقب مباحثات ثنائية مع الرئيس الأسد، حسب بيان للرئاسة السورية، عن أمله في أن تستعيد سوريا عافيتها ودورها في المنطقة بأسرع وقت، وأن يتمكن شعبها من تقرير مستقبل بلده بنفسه بعيدًا عن أي تدخلات خارجية. وأكد وقوف بلاده إلى جانب سوريا وأمنها، وأنها على استعداد لتقديم ما يمكنها لدعم وحدة أراضي سوريا.

وقال البشير، حسبما نقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا): إن سوريا دولة مُواجهة وإضعافها هو إضعاف للقضايا العربية، وأفاد: إن ما حدث فيها خلال السنوات الماضية لا يمكن فصله عن الواقع، وإنها بالرغم من الحرب بقيت متمسكة بثوابت الأمة العربية.

أما الرئيس السوري بشار الأسد، الذي شكر الرئيس البشير على زيارته، فقد أكد أنها ستشكِّل دفعة قوية لعودة العلاقات بين البلدين كما كانت قبل الحرب على سوريا. وقال إن بلاده -وعلى الرغم من سنوات الحرب- بقيت مؤمنة بالعروبة ومتمسكة بها، موضحًا أن تعويل بعض الدول العربية على الغرب لن يأتي بأي منفعة لشعوبهم لذلك فالأفضل هو التمسك بالعروبة وبقضايا الأمة العربية.

واتفق الرئيسان، حسب البيان الرسمي، خلال مباحثات جرت بقصر الشعب في العاصمة دمشق، على أن الظروف والأزمات التي يمر بها العديد من الدول العربية تستلزم إيجاد مقاربات جديدة للعمل العربي، تقوم على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية وهذا بدوره كفيل بتحسين العلاقات العربية بما يخدم مصلحة الشعب العربي.

 

دوافع الزيارة سودانيًّا

اللافت في الرواية الرسمية السودانية بشأن دوافع زيارة البشير إلى سوريا إقرارها بأنها لا تتعلق بأجندة ثنائية على مستوى العلاقات بين البلدين، لاسيما وقد احتفظت الخرطوم ودمشق بعلاقتهما الدبلوماسية قائمة على مستوى السفراء.

وذلك رغم قرار الجامعة العربية بتجميد عضوية سوريا فيها منذ العام 2011. فقد تواترت تصريحات المسؤولين السودانيين التي تؤكد على أن أجندة الزيارة تتعلق بقضايا العمل المشترك وجمع الصف العربي.

فقد أكد فيصل حسن إبراهيم، نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ومساعد رئيس الجمهورية “أن زيارة الرئيس عمر البشير لسوريا أتت مواصلة لقيادته مبادرات لجمع الصف العربي”.

وأضاف: إن “الزيارة جاءت أيضًا لتجاوز الأزمة السورية بعد حالة التخاذل التي تشهدها الساحة العربية في كثير من المحافل”، وتابع قائلًا: “إن التدخلات الدولية والإقليمية التي تشهدها سوريا تستوجب العمل على إنهاء الصراع وتقوية الصف وتضميد جراح سوريا، ووحدة القرار والصف العربي”.

في الوقت الذي نفى خالد محمد أحمد، السفير السوداني لدى سوريا، أن يكون هناك طرف آخر وراء الزيارة، وشدَّد على أنها “تحرك سوداني خالص، وليس بمبادرة من أي دولة أخرى”.

مضيفًا: “السودان دولة ذات سيادة، ولها قيادة سياسية تعلم ما تفعل، ولا تتحرك بالريموت كنترول من هنا وهناك”، على حد تعبيره، وقال السفير خالد: إن “القيادة السودانية تتخذ القرار الذي تراه مناسبًا لمصلحتها ومصلحة العالم العربي”.

ودخول “إسرائيل” كذلك على خط الزيارة جاء أيضًا كمعطى في السردية الرسمية السودانية؛ فقد ذكر السفير السوداني في دمشق أن زيارة البشير إلى سوريا تعتبر “ضربة قاضية أمام أي حديث إعلامي عن تقارب إسرائيلي-سوداني”، مضيفًا أن “السودان دولة ضد إسرائيل، ولم تغير موقفها في يوم من الأيام منها”.

في إشارة إلى تقارير إسرائيلية تواترت أخيرًا عقب زيارة الرئيس التشادي، إدريس ديبي، إلى تل أبيب الشهر الماضي واستئناف العلاقات بين البلدين تكهنت بأن السودان، الجار الشرقي لتشاد، سيكون المحطة التالية للتطبيع، وأن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، سيزور الخرطوم قريبًا.

 

ردود الفعل عربيًّا على الزيارة

بدت رحلة البشير الدمشقية مفاجأة للكثير من المراقبين، وربما كذلك للعديد من عواصم القرار سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي.

فقد ذهب غالب المحلِّلين إلى قراءة مدلولاتها في إطار تطورات ملحوظة على الساحة العربية تجاه الموقف من الأزمة السورية لا سيما بعد تزايد استعادة القوات الحكومية، بمساعدة من حلفائها الروس والإيرانيين للسيطرة على الأرض، وسط تراجع كبير للمعارضة سياسيًّا وعسكريًّا، لا سيما بعد رفع الغطاء السياسي والعسكري والدعم الإقليمي الدولي التي كانت تحظى به على مدار السنوات الماضية.

وهو ما ظهر جليًّا في إقدام أكثر من عاصمة، على وجه الخصوص الرياض وأنقرة، في إعادة حساباتها تجاه المسألة السورية مدفوعة باعتبارات أجندة داخلية بامتياز، كانت نتيجتها المباشرة فقدان المعارضة السورية لأهم أوراقها، رافق ذلك إرسال إشارات لافتة في بريد الأسد تحمل نيات تطبيع يحتاج إلى مسهِّل يبادر يكسر الطوق ويعبِّد طريقًا سالكًا إلى دمشق.

ولعل هذه المعطيات هي التي جعلت المحلِّلين يكادون يُجمعون على أن زيارة البشير إلى سوريا لم تكن تنطوي سوى على احتمال واحد هو أنه لم يذهب إلى الأسد مبادرًا من تلقاء نفسه، بل رسولًا لتحقيق هدفين:

أولهما: توصيل رسائل تحمل عروضَ تطبيعٍ من بعض زعماء المنطقة، مع اختلاف في الأطراف المعنية إن كانت من تركيا التي بدأ تحولها من دعم المعارضة السورية منذ نحو العام مع تزايد انشغالاتها بأجندتها الداخلية خشية تبعات الملف الكردي المستفيد من الأزمة السورية، أو من السعودية والإمارات، أو منها جميعًا مع أطراف أخرى.

والهدف الثاني، من خلال التشديد على وصف زيارة البشير بأنها الأولى لرئيس عربي منذ بداية الأزمة، كان القصد منه التأكيد على كسر طوق العزلة العربية الرسمية المفروضة على سوريا المجمدة عضويتها في الجامعة العربية منذ أواخر العام 2011 الذي انطلق في أوله العمل المعارض لحكم الأسد ضمن موجات الربيع العربي الأولى.

غير أن دخول العلاقات بين الخرطوم ومحور الرياض/أبوظبي في حالة من الفتور، على خلفية غضب مكتوم في دوائر الحكومة السودانية لتقاعسها عن دعمها في محنتها الاقتصادية، يرجِّح أن البشير لم يذهب إلى دمشق رسولًا من الدولتين، ولكن ذلك لا ينفي استفادتهما من الخطوة في سياق تنسيق بينهما والموقف الروسي الذي سنتطرق إليه لاحقًا.

يستند المرجحون للسيناريو العربي في تحليل دوافع وأسباب زيارة البشير إلى سوريا إلى أن الرواية السودانية الرسمية، وكذلك السورية، تركز من خلال التصريحات الحكومية على أنها ذات بُعد يتعلق بالنظام العربي الرسمي.

والذي بدأ ينحو باتجاه التهدئة وتسوية النزاعات المشتعلة والتخفيف من غلواء التدخلات الأجنبية التي لم تستثنِ وطأتها وتأثيرها أيًّا من الدول العربية بما في ذلك تلك الدول التي ظنت أنها ذاتُ حظوة تجعلها بمنجاة من الضغوط الخارجية، والشاهد هنا الضغوط الأميركية على السعودية في قضية اغتيال جمال خاشقجي.

ولعل رئاسة السودان للدورة الحالية للمجلس الوزاري للجامعة العربية -التي بدأت في سبتمبر/أيلول 2018- أوحت بتفسير الخطوة السودانية باعتبارها مهمة قام بها البشير بتفويض وفق هذا الترتيب.

وهو ما يجعل الرسائل التي حملها إلى الأسد تتعدى الدول التي أشرنا إليها آنفًا، لتعبِّر عن المنظومة العربية بكاملها وعلى رأسها مصر بالطبع التي احتفظت بموقف مستقل عن حلفها التقليدي مع بعض دول الخليج التي نشطت لفترة في دعم المعارضة في الصراع في سوريا وعليها.

ولعل ما يعزز هذا المنحى في التحليل أن زيارة البشير إلى دمشق على الرغم من أنها لا تزال معلَّقة العضوية في الجامعة العربية إلا أنها لم تجد استنكارًا أو انتقادًا رسميًّا من أية دولة عربية، ولعل الصمت أيضًا عن الترحيب بها كان كافيًا ليمثل علامة رضا.

 

الأجندة العربية وحدها لا تكفي

ولكن على الرغم من هذه المعطيات، إلا أنها ليست كافية وحدها للإجابة على سؤال دوافع السودان خلف تحرك الرئيس البشير في هذا التوقيت بالذات باتجاه سوريا.

فالنظام العربي الرسمي لا يعاني فقط من وجود سوريا خارج منظومته، بل ظل يعاني -كما هو شأنه في أغلب الحقب- من حالة انقسامه على نفسه، وقد تحول إلى كتل من المحاور والتحالفات المتناقضة.

وبالتالي، فالتصور أن الإلحاح على أن تطبيع العلاقات مع سوريا يأتي لوجه العمل العربي المشترك الخالص زعم لا تسنده وقائع الحال الماثل، وإلا فإن ترميم البيت الخليجي ليس أقل إلحاحًا والحصار المفروض على قطر من بعض جيرانها الأقرب لا يزال مستمرًّا.

كما أن تسوية النزاعات العربية في أكثر من حالة ليست أقل شأنًا، وبالتالي يبقى الاحتمال الأكثر رجحانًا هو أن مشاغل الأجندة الداخلية على الصعيد الوطني لبعض الدول العربية التي نشطت أخيرًا في تحريك قطار التطبيع باتجاه دمشق هي أحد العوامل الأكثر تأثيرًا في المعادلة الراهنة.

ومن المؤكد أن السودان ليس بدعًا في هذا الخصوص، فالموقف الرسمي في الخرطوم ظل يحتفظ بصلات طبيعية مع دمشق، حيث احتفظت العاصمتان بالعلاقات الدبلوماسية قائمة على مستوى السفراء دون أدنى تغيير حتى بعد قرار الجامعة العربية بتجميد العلاقات الرسمية، كما فتح السودان أراضيه لاستقبال السوريين دون قيود، وظل الرئيس البشير يدعم تسوية سياسية سلمية لا تمس قيادة الأسد ويرى أنه لا حلَّ ممكنًّا للقضية السورية بدونه.

ولكن مع ذلك لم يكن هناك ما دفع البشير للقيام بزيارة دمشق في عز تصاعد الأزمة، فلماذا توجه إليها الآن؟ وما الجديد على صعيد العلاقات الثنائية يدعوه إلى ذلك، خاصة أن خطوة زيارة دمشق لم تكن مثلًا في إطار مبادرة مصالحة عربية شاملة معلومة ومتفق عليها، سواء بمبادرة منه أو من الجامعة العربية؟

 

الحسابات السودانية في هذه الخطوة

هذه المؤشرات ترجِّح أن الأجندة الداخلية السودانية، وحساباتها المعقدة على وقع الأزمة السياسية الراهنة المستفحلة التي تبدت تجلياتها في التدهور المتسارع للاقتصاد السوداني، وسط نذر احتقان اجتماعي متزايد.

لم يلبث أن انفجر في احتجاجات شعبية غير مسبوقة بعد ثلاثة أيام فقط من زيارة البشير لسوريا، والبحث عن مخرج منها كانت حاضرة بقوة في أجندة الرئيس البشير عند توجهه إلى دمشق، في ظل عزوف خليجي، لاسيما من محور الرياض/أبوظبي الذي انخرط في حربه في اليمن دون أن يجني من ذلك التحالف مصالح ذات بال.

وقد تغاضت عن دعمه اقتصاديًّا في وقت شدة بات يهدد استمراره في الحكم بصورة جدية أكثر من أي وقت مضى منذ وصوله إلى السلطة بانقلاب عسكري في العام 1989.

لم تكن خيبة أمل الرئيس البشير في سياسته الخارجية محصورة في فقدان الرهان على الاصطفاف في محور الرياض/أبو ظبي، الذي كان ثمنه الباهظ التراجع عن علاقة وثيقة منتجة مع الدوحة إلى مجرد صلات تقوم على الاحتفاظ بشعرة معاوية مع قطر التي أسهمت بدور محوري مدعوم دوليًّا في إيقاف الحرب وصنع السلام في دارفور.

ولم تفلح محاولة الخرطوم في الوقوف على الحياد في الأزمة الخليجية ومحاصرة قطر في نيل رضا أي من الطرفين، وكذلك فقدت الخرطوم ورقة مهمة بالمضي قدمًا دون مسوغات ضرورية في قطع العلاقة مع إيران.

بل امتد رهان السياسة الخارجية السودانية الخاسر أيضًا إلى تعثر محاولات التطبيع مع واشنطن على الرغم من أن الخرطوم دفعت كلفة عالية على هذا الصعيد منذ انخراطها في الحرب الأميركية على الإرهاب.

والتي جاءت خصمًا من الرصيد الأخلاقي ومن مشروعية نظام الإنقاذ الذي يرفع شعارات الإسلام الحركي حيث اضطرت إلى كشف أوراق وتسليم كثيرين من المستجيرين بها من “الإسلاميين” المطلوبين من واشنطن.

وكان كذلك من بين الخسائر الباهظة القبول بتقسيم السودان في محاول لإرضاء جماعات الضغط الأميركية التي نجحت في فصل جنوب السودان.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة رفعت، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2017، العقوبات الاقتصادية المفروضة على الخرطوم منذ العام 1997، دون أن يُحدث ذلك أثرًا إيجابيًّا ملموسًا على الاقتصاد السوداني، بسبب استمرار إدراج السودان ضمن اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب منذ العام 1983.

وهو ما ترتب عليه أيضًا عقوبات اقتصادية من بينها حرمان السودان من الاستفادة من مبادرة الدول الأكثر فقرًا بالإعفاء من ديونه البالغة نحو ستة وخمسين مليار دولار.

ويزيد من تعقيدات الوضع في السودان تضاؤل احتمالات حدوث تقدم منظور في العلاقات مع الولايات المتحدة، وبالتالي خروجه من لائحة الدول الراعية للإرهاب وإنهاء حصاره الاقتصادي في المرحلة الثانية من الحوار بين البلدين الذي ابتدر السودانَ قبل شهرين.

حيث تتمسك واشنطن بلائحة من ستة شروط يتوجب على الخرطوم الوفاء بها قبل النظر في مراجعة وضعية السودان في لائحة الإرهاب، وهي شروط قاسية يعني تنفيذها الفعلي تفكيك بنية النظام الحالية.

كما أن العلاقات التي تبدو متينة مع تركيا لم تحقق ما كان مأمولًا منها بعد مرور عام على زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الخرطوم والوعود الكثيرة التي بذلها لمضاعفة حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين.

في حين أن العلاقات الوثيقة التي كانت تربط الخرطوم مع بكين، الشريك الاقتصادي الأول للسودان، ظلت تتراجع باستمرار ولا تزال تعاني من جمود.

ولم تفلح كل الجهود في تذويبه على خلفيات الأضرار التي لحقت بالصين في مشروعها الاستراتيجي في صناعة النفط في السودان إثر انفصال الجنوب والصراع المحتدم بين البلدين المنقسمين وفي داخلهما والذي كانت الصناعة النفطية أبرز ضحاياه.

 

بوتين الحامي والمنقذ الجديد

في ظل هذه الأوضاع بالغة التعقيد التي جعلت السودان مرتهنًا لحالة من الأزمات المستدامة لم يجد الرئيس البشير بدًّا من أن يُيَمِّم شطر موسكو خاطبًا وُدَّ الرئيس فلاديمير بوتين.

وقد بقيت روسيا، بوصفها دولة كبرى، الخيار الوحيد المتاح الذي يمكن التعويل عليه في بناء علاقات ذات طابع استراتيجي قد تعود ببعض الفوائد السياسية والاقتصادية في دعم الحكومة السودانية المحاصَرة بالتحديات الخارجية والداخلية.

وبدا ذلك واضحًا إبان قمة سوتشي الروسية التي استقبل فيها بوتين ضيفه البشير في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2017، وهي زيارة كان قد تم تأجيلها أكثر من مرة.

وبلغت “الإثارة السياسية” قمتها حين فاجأ البشير بوتين علانية ليس بطلب دعم اقتصادي بل ذهب أبعد من ذلك بكثير حين طلب الحماية العسكرية الروسية من “التدخلات الأميركية”، وقدَّم عرضًا لموسكو لبناء قاعدة عسكرية داخل الأراضي السودانية على ساحل البحر الأحمر.

وهو ما سبَّب حرجًا سياسيًّا للحكومة على خلفية الجدل الواسع الذي أثارته الخطوة مما اضطر معه وزيرا الخارجية والإعلام حينها عبثًا لمحاولة التخفيف من وقع التصريح الرئاسي وإعطاء تفسيرات تقلِّل من خسائره السياسية.

لم تُبدِ موسكو حماسة كبيرة لمسألة بناء قاعدة عسكرية في السودان، لكنها استفادت من العرض لتوثيق علاقتها مع الخرطوم لخدمة أجندتها ومصالحها في السودان والمنطقة على حد سواء؛ فقد عهد البشير إلى موسكو بمهمة تحديث الجيش السوداني.

لا سيما أن معظم تسليح القوات المسلحة السودانية ذو منشأ روسي، وهي صفقة تكلف عدة مليارات دولار، لكن ليس معروفًا من أين وكيف سيتم تمويلها، إضافة إلى مشروعات استثمارية في مجال التعدين خاصة الذهب.

من جانب آخر، وعد بوتين بتصدير مليون طن من القمح إلى السودان، ولكن ذلك لم يتم من واقع ما أفرزته الأزمة الاقتصادية في السودان بسبب معاناة الحكومة في الحصول على دقيق الخبز الذي كان أحد أسباب تفجير الاحتجاجات الشعبية.

وأبدى السودان حماسة لافتة للدخول في حلف جديد يعزز النفوذ الروسي في المنطقة، لاسيما أن السودان يحتفظ بموقع جيوستراتيجي على تخوم العالمين العربي والإفريقي، وظهر ذلك في المبادرة السودانية المدعومة روسيًّا للتسوية السياسية بين فرقاء الصراع في إفريقيا الوسطى على تخوم المصالح الفرنسية والتي أزعجت باريس، وانتقدتها علانية.

ولأن الدور الروسي في نموذج الحماية القوي الذي كفله للرئيس الأسد أثبت جدواه، فقد بات في حاجة لترجمة الانتصار العسكري على الأرض إلى تتويجه بنصر سياسي لا يكسر طوق العزلة العربية عن سوريا فحسب.

بل يمهد لإعادة تطبيع العلاقات المرجوة من أكثر من طرف مع دمشق لأسباب مختلفة وإعادة فاعليتها في المنظومة العربية الرسمية، وكانت روسيا في حاجة لطرف عربي يقوم بهذه المهمة، مهمة خرق قرار الجامعة العربية بتجميد عضوية سوريا، ليزيل الحرج عن العواصم العربية الراغبة في تطبيع العلاقات مع دمشق، ولكنها تريد أن تحفظ بعض ماء الوجه.

 

الأجندة الروسية

ثمة عدة دلائل تعزز من فرضية أن زيارة البشير لسوريا حدثت مدفوعة بمبادرة وأجندة روسية بالأساس، وربما بتنسيق مسبق مع موسكو من بعض الدول العربية التي أشرنا إليها آنفًا، فقد تسربت معلومات من مصادر وثيقة الصلة بالرئاسة السودانية بأن البشير قام بزيارة سرية إلى روسيا قبل أسبوعين من رحلته المفاجئة إلى دمشق.

كما أن القرينة التي قطعت الشك باليقين هي أن البشير استخدم في زيارته إلى سوريا طائرة عسكرية روسية من طراز (تو-156) تابعة للجيش الروسي، وهو ما أكده السفير السوداني في دمشق، خالد محمد أحمد، الذي اعتبر أن سفر البشير إلى دمشق بـ”طائرة روسية أمر طبيعي”.

مضيفًا: “ليس هناك ما يمنع التعاون مع دولة صديقة مثل روسيا في استخدام طائرتها في سفر الرئيس البشير إلى سوريا”. ويُعزى ترتيب الزيارة إلى يفغيني بريغوزين، رجل الأعمال الروسي المقرب من الرئيس بوتين، وعراب العلاقات الروسية-السودانية الجديدة.

ويتهم زعيم المعارضة في الدوما شركات بريغوزين بالسيطرة على كل عقود وزارة الدفاع الروسية، إضافة إلى امتلاك شركة أمنية على غرار بلاك ووتر الأميركية تستأجر مجندين للقيام بعمليات قتالية في سوريا وفي شرق أوكرانيا، إلى جانب وجود لمنسوبيها في السودان لأغراض التدريب، وكذلك في إفريقيا الوسطى.

كانت زيارة البشير لدمشق مهر هذا التوجه الروسي للاستفادة من رغبته الملحَّة في إيجاد حليف دولي، لإعادة تسويق نموذج روسيا السوري عربيًّا وفتح الطريق أمام استعادة دورها العربي بما يعزز نفوذ موسكو المتنامي في منطقة الشرق الأوسط على حساب النفوذ الأميركي المتراجع بفعل أسلوب قيادة ترمب المنكفئ والانسحابي.

من المؤكد أن زيارة البشير إلى سوريا قدمت خدمة كبيرة لأجندة بوتين المتطلع لتوظيف استثماره الضخم في الدفاع عن نظام الأسد في تحقيق نصر دبلوماسي حاسم يعيد تقديم موسكو كلاعب رئيس في المنطقة؛ إذ سرعان ما توالت بعد تدشين البشير للتطبيع مع دمشق خطوات دول عربية لاستئناف علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا.

ومن شأن نجاح البشير في مهمة فتح الطريق للتطبيع العربي مع سوريا أن تُفتح أبواب موسكو أمام الخرطوم التي تنتظر أن ترد لها الجميل بمساعدتها في مخاطبة أجندتها الملحَّة وكسر عزلتها الدولية وتخفيف حصارها لاسيما في الجبهة الاقتصادية المتداعية التي باتت تشكِّل خطرًا ماثلًا على بقاء النظام.

ومن المهم الإشارة في هذا الخصوص إلى أن ضغوط الوضع الاقتصادي زادت من قرون الاستشعار في الرأي العام السوداني في قراءة أية تحركات للرئيس البشير خارجيًّا وقياس نجاحها بمردودها الاقتصادي، ويبقى السؤال: إلى أي مدى سيستفيد اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا من الانتقال إلى المحور الروسي.

* خالد التيجاني النور، خبير في الشؤون السياسية السودانية.

 

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات – الدوحة 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة