قال الأستاذ الدكتور شوقي علام، مفتي مصر: إننا ونحن نتطلع إلى مستقبلِ تلك الأمة ودورِها الحضاري المقدَّر لها، نعلم يقينًا أن هذا المستقبل يُصنع –وَفق إرادة الله تعالى- وأن صناعته تتطلب إيمانًا حقيقيًّا من أفراد تلك الأمة بأنهم يمتلكون القدرة والطموح والإبداع الذي يؤهلهم لتلك المهمة الجليلة.
وأضاف أن الرسالات السماوية جميعًا عُنِيَتْ في المقام الأول ببناء الإنسان، وتطويرِه وتأهيلِه لخلافة الله في الأرض، والقيامِ بمقتضيات تلك الخلافة، وأَوْلَت الشريعة المحمدية على وجه الخصوص عنايتَها البالغة ببناء هذا الإنسان، بوصفه ركيزة الحضارة، ومناط عملية النهضة والتنمية، وسَعَتْ إلى تشييد هذا البنيان الإنساني على قواعد ثابتة مستقرة.
جاء ذلك في كلمته التي ألقاها في المؤتمر العلمي الدولي الثاني لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر تحت عنوان: “بناء الإنسان في التصور الإسلامي بين الواقع والمأمول”.
وأكد على أن تحقيق المقاصد التي أرستها الشريعة الإسلامية لا سبيل إليه إلا بإرادة حقيقية للإصلاح والبناء، واستنفار شامل، يسخِّر طاقات الأمة جميعًا، في إطار عملية مجتمعية بنائية شاملة، تتكامل فيها أدوار المؤسسات الرسمية والجهود الفردية لصياغة وبناء إنسان متكاملٍ نفسيًّا وأخلاقيًّا وجِسمانيًّا ودينيًّا.
وأوضح فضيلته أن الإنسان الذي يسعى الإسلامُ إلى بنائه ينبغي أن يكون مرتبطًا بتراثه العريق الذي يحفظ له هُوِيَّتَه الثقافية، وذاتيته الحضارية، فإن هذا التراث هو منهل الإبداع والإلهام المعاصر، وإن قطع الصلة بهذا التراث يعني فقدان الذاكرة الأممية، ولا جَرَمَ أن فاقد الذاكرة لا طاقة له بصناعة مستقبله؛ لانقطاعه عن ماضيه وحاضره.
وقال : “إننا ونحن نؤكد على أهمية التراث وعلى كونه أحد المكونات البنائية للشخصية المسلمة، نؤكد على أن تلك المحاولات التأصيلية للشخصية المسلمة إنما هي محاولات للارتكاز على الموروث الثقافي وعلى الهوية المميزة، وليست محاولات للاحتماء في ذلك الموروث، والاتقاء به من موجات التقدم والتطور العالمية”.
وشدد أننا -ونحن بهذا الصدد- لا يمكن أن نتجاوز دور الأزهر الشريف المحوري في حفظ التراث والـهُوِيَّة الإسلامية الخالصة، وممارسة دوره التنويري الرائد بذات الكفاءة والفعالية التي يمارس فيها دوره كصمام أمان للأصالة الإسلامية، فهو يضطلع بجانب المؤسسات التعليمية الإسلامية العريقة في العالم الإسلامي برسالته السامية في بناء إنسان يحمل بين مكوناته الأصالةَ والتنويرَ والمعاصرةَ.
وأضاف فضيلة المفتي أن المسلم بجانب هويته المميِّزَة وأصوله التي يتمسك بها هو من جانب آخر مبدعٌ يرفض أن يكون جزءًا من سياق تقليدي نمطي لا يدرك مواطن قوته ولا موارده المتاحة، فيُهْدِرها عن عمد أو دون قصد منه، بل يسعى دائمًا إلى امتلاك موقف إبداعي يمارس من خلاله العملية الإبداعية ليتمكنَ في النهاية من خلق الفكرة وتنفيذها؛ سواء كان هذا التنفيذ العملي بنفسه أو من خلال مساعدة مجتمعه.
وأشار فضيلته إلى أن ذلك الإبداع لا يمكن صَهْرُهُ في شخصية المسلم بحيث يكون أحدَ صفاتها الذاتية الملازمة، إلا بالتغذية الثقافية المركزة والمستمرة، فالإبداع له ارتباطه الوثيق بالثقافة، حيث تمثل الثقافة نقاطَ انطلاقه وتوجيهه، وينعكس مدى التشبع الثقافي للفرد والجماعة والأمة على تفجر قدراتهم الإبداعية والابتكارية، وعلى تعزيز الشعور الدائم بالقدرة على تخطي الحواجز والأنماط الفكرية، والجرأة والإقدام في تقديم الطرح الجديد المبتكر.
وأوضح ان الإسلام يسعى إلى بناء إنسان متعلِّم؛ فالعلم هو الضامن الحقيقي لإعادة صياغة الشخصية وتطويرها بالقدر الذي تستطيع به مواكبة متطلبات العصر وتحدياته.
وأضاف أن تطوير التعليم الحقيقي الذي نسعى إليه؛ ليس في تلك الإحصائيات أو المعادلات التي تسعى للمقاربة بين سوق العمل واحتياجات ذلك السوق وبين نِسَب الخريجين وتخصصاتهم، بل إن حاجتنا أصبحت ماسَّةً للدفع في اتجاه تعديل الدوافع الغائية من عملية التعليم بأسرها، والسعي نحو وضع البُعد التنموي والثقافي واستشراف الحاجات المستقبلية للأمة في مقدمة أولويات العملية التعليمية، والعمل على تطوير المنظومة عن طريق مراجعة المناهج الحالية لتلبية الاحتياجات المستقبلية سواء الوطنية أو الدولية، دون إغفال تصميم برامج مخصصة لتلائم احتياجات سوق العمل في المستقبل.
وأوضح أن إيجاد صيغ تعاون مشتركة بين القطاعات الصناعية والتجارية المميزة، وبين المنظومة التعليمية من شأنه أن يعزز من قيمة الابتكار التعليمي ويزيد من فرص وجوده.
وتابع فضيلة المفتي: “إن الشخصيةَ المسلمةَ التي نستهدفُ الوصولَ إليها شخصيةٌ ناقدةٌ تستطيع مواجهة هذا التدفق المتسارع للمعلومات والمعارف بآلةٍ فكريَّةٍ قادرةٍ على مراجعة تلك المعارف والمعلومات، وتحديد مدى صلاحيتها وصحتها، وإعادة النظر فيها مقارنة بأفكار المسلم وقناعاته، وأحكامه القَبْلية”.
وأضاف أن تلك الرؤية الناقدة إحدى سبل التطوير الذاتي والتطوير المجتمعي على حد سواء، وهي أبرز السبل الدفاعية التي تساعد في الوقاية من الانخراط والوقوع تحت تأثير الخطاب المتطرف والمنحرف؛ ذلك الخطاب الذي يحاول الاتكاء على جملة من الأفكار البسيطة غير المركبة والشعارات التي تَمَسُّ وجدانَ الشباب، ودائمًا ما يضع أهدافًا ظاهرية تُمثل قضايا ملحَّةً كقضايا التحرير والتخلص من الهيمنة، واستعادة صدارة المشهد العالمي، والحفاظ على الهوية، ونحو ذلك من الأهداف الإعلامية الظاهرية التي يُخفي وراءها استراتيجياته الهدامة، ودائمًا ما يقع في براثن ذلك الخطاب أصحابُ الرُّؤَى الأُحادية، وهنا تأخذ الرؤية النقدية والتحليلية موقعها في نقد هذا الخطاب والوقوف على مواطن التضليل فيه، مما يحصن صاحبها من التأثر بذلك الخطاب ومقتضياته.
واختتم مفتي الجمهورية كلمته بقوله: “إن كل ما نَطْمح إليه مما سبق لا يتكامل إلا في إنسان قوي يتمتع بصحة موفورة، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالي من المؤمن الضعيف، ومن هذا كله تبرز أهمية ذلك المؤتمر في المساهمة الفعالة في استراتيجيات بناء الإنسان المسلم، وتطويره وتأهيله لاستعادة دوره الحضاري والريادي”.
عذراً التعليقات مغلقة