اغتيال ابنته في موسكو، كان يستهدف ألكسندر دوغين نفسه لدوره في صياغة العقيدة العسكرية الخاصة بالجيش الروسي.
ينادي دوغين بـ”الأوراسية الجديدة” الأقرب إلى اليمين المتطرف الداعي إلى هيمنة روسيا على أوراسيا، أكثر مما هو داعم للاندماج الثقافي والحضاري الأوراسي.
فرضت أميركا عقوبات على دوغين عام 2014 بعد ضمّ القرم، ومؤخراً أضيفت ابنته لقائمة العقوبات الأميركية بسبب “دورها الإعلامي في تأييد العملية العسكرية في أوكرانيا”.
أوراسيا تعاني “أزمة عرقية وبيولوجية وروحية حادة” حلها بقيادة روسيا لأوراسيا وإخضاعها لـ”عملية عضوية ثقافية عرقية” للحفاظ على دول أوراسيا وتقاليدها الثقافية.
مقارنة أفكار بوتين وأفكار دوغين، تعطي فكرة واضحة أن بوتين لا يؤمن بأوراسية دوغين (الذي لا يؤمن بالاتحاد الروسي كدولة)، بل إن بوتين ينتمي إلى التيار القومي الروسي.
* * *
د. ليلى نقولا
يعود الحديث عن المفكر الروسي ألكسندر دوغين وتناول دوره في التفكير الاستراتيجي والسياسة الخارجية الروسية، بمناسبة اغتيال ابنته في موسكو، اغتيالٌ يقول عدد من الوسائط الإعلامية إنه كان يستهدف دوغين نفسه، لدوره في صياغة العقيدة العسكرية الخاصة بالجيش الروسي.
وبصرف النظر عن الاغتيال، ومن يقف وراءه، لا شكّ في أن هناك سلسلة من المغالطات التي سوّقها الإعلام الغربي عن روسيا، التي انتشرت عالمياً من دون التدقيق في صحتها. ومن بين تلك الأساطير، ما سمّي “عقيدة جيراسيموف”، الذي يشير الغرب إلى أنه المبدأ العسكري المؤسّس لـ”الحروب الهجينة” التي تعتمدها روسيا.
وذلك استناداً إلى خطاب نقلته مجلة عسكرية روسية عن فاليري جيراسيموف (قائد الأركان الروسي منذ عام 2012)، وفيه يتحدث عن “دروس الربيع العربي”، ويشرح كيف تزيل الولايات المتحدة والغرب الحواجز بين العسكري والمدني في الحروب الجديدة التي سمّاها “الحروب الهجينة”.
ورغم اعتذار مطلق شعار “عقيدة جيراسيموف”، الكاتب الأميركي مارك غاليوتي، في مقال نشره في “فورين بوليسي”، وقوله أن لا شيء يشير فعلاً إلى وجود هذه العقيدة في روسيا، إلا أن الإعلام الغربي ما زال يستخدم هذا التوصيف لشرح العقيدة العسكرية الروسية.
وبالعودة إلى ألكسندر دوغين، يسميه الغرب “عقل بوتين” أو “راسبوتين بوتين”، ويتهمه بأنه الملهم الروحي لبوتين وللقادة العسكريين الروس، وذلك انطلاقاً من كتاب لدوغين يتناول فيه الجيوبوليتيك باللغة الروسية عنوانه “أسس الجيوبوليتيك” ويدعو فيه روسيا إلى التحلّي بالقوة، والسعي للعودة إلى الساحة العالمية، وتقويض هيمنة أميركا على العالم.
واللافت أن أميركا فرضت عقوبات على دوغين عام 2014 بعد ضمّ القرم، وأخيراً أضيفت ابنته إلى قائمة العقوبات الأميركية بسبب “دورها الإعلامي في تأييد العملية العسكرية في أوكرانيا”.
المؤكد، أن مَن يتداولون مصطلح “عقل بوتين” للدلالة على دوغين، لم يقرأوا كتاب “أسس الجيوبوليتيك” باللغة الروسية، الذي يحتوي على مفاهيم أكاديمية عامة حول الجيوبوليتيك بداية، ثم بعض النصائح لعودة روسيا إلى الساحة الدولية التي تتطلب تقويض الهيمنة الأميركية على العالم، ومنها المساهمة في تقويض الولايات المتحدة من الداخل (رغم تأكيده أن ذلك صعب). كما أن معظمهم لم يصرف وقته في تدقيق مدى تطابق أفكار بوتين القومية، و”الأوراسية الجديدة” التي ينادي بها ألكسندر دوغين.
عملياً، أن إجراء دراسة مقارنة لكل من أفكار بوتين وأفكار دوغين، تعطي فكرة واضحة أن بوتين لا يؤمن بأوراسية دوغين (الذي لا يؤمن بالاتحاد الروسي كدولة)، بل إن بوتين ينتمي إلى التيار القومي الروسي الذي يؤمن بعظمة روسيا كحضارة قائمة بذاتها، وليست بالضرورة جزءاً من الحضارة الأوروبية أو الأوراسية كما تؤمن التيارات الفكرية الأخرى في روسيا.
أوراسية بوتين تنطلق من مصلحة اقتصادية وجيوبوليتكية (سياسة واقعية)، وليس من منطلق إيمان بهويةٍ أوراسية حضارية كالتيار الأوراسي الفكري في روسيا الذي لا يؤمن بالهوية الروسية باعتبارها مميّزة ومنفصلة بل باعتبارها جزءاً من أوراسيا.
أما “الأوراسية الجديدة” التي ينادي بها دوغين، فهي أيضاً لا تتطابق والتيار الأرواسي التقليدي في روسيا، بل إن أفكاره أقرب إلى اليمين المتطرف الذي يدعو إلى هيمنة روسيا على أوراسيا، أكثر مما هو داعم للاندماج الثقافي والحضاري الأوراسي.
وفقاً لدوغين، فإن “النظام الأطلسي” هو قوة متجانسة تعمل لإضعاف التنوّع الوطني والثقافي الذي يمثل قيمة أساسية في أوراسيا. ولأن أوراسيا تعاني “أزمة عرقية وبيولوجية وروحية حادة” يمكن أن يكون الحلّ بقيادة روسيا لأوراسيا على أن تخضع لـ”عملية عضوية ثقافية عرقية” بقيادة روسيا لضمان الحفاظ على دول أوراسيا وتقاليدها الثقافية.
في المقابل، حظيت أوراسيا باهتمام واضح لدى بوتين لاعتبارات عديدة، أهمها رفض أوروبا دمج روسيا في المنظومة الأوروبية، ثم التوجّه الأوروبي إلى قطع العلاقات بروسيا بعد الحرب في أوكرانيا، وفضلاً عن ذلك، يعتقد بوتين أن بلاده هي الدولة المحورية في أوراسيا، خصوصاً أنها دولة واسعة متعدّدة العرق، وهي تالياً تمثّل صورة مصغرة لأوراسيا.
يمكن تلخيص تصورات فلاديمير بوتين الفكرية بعددٍ من التوجهات الرئيسة:
– التوجّه المحافظ
في مستهل حكمه، حاول بوتين أن يتبنّى سياسات ليبرالية ويتعاون مع الغرب، لكن تجربته غير المشجعة مع الغرب في ولايته الأولى، دفعته إلى الاتجاه المحافظ، وسرعان ما بدأ يتحدّث عن روسيا التي تعتمد على التقاليد والقيم الأساسية، وخصوصاً القيم المسيحية. وتبلورت هذه الفلسفة على نحو كبير في ولايته الرئاسية الثانية وما تلاها.
وقد توسّعت هذه السياسة المحافظة، من خلال التحالف مع الكنيسة الأرثوذكسية، وزاد استخدام بوتين للمفردات الدينية كآلية لمواجهة التطرف، ولكسب التأييد الانتخابي في الداخل. وكان لافتاً التعريف الذي أعطاه الرئيس الروسي للديمقراطية، إذ عرّفها بأنها “قوة الشعب الروسي في تقاليده الخاصة بالحكم الذاتي، وليست الوفاء للمعايير المفروضة على روسيا من الخارج”.
– طموحات القيادة العالمية
لم يُخفِ بوتين رغبته في استعادة المكانة الروسية في النظام الدولي، وحاول القيام بذلك عبر القوة الصلبة، والتوسّع الخارجي، إضافة إلى أدوات القوة الناعمة وتسويق ما يعرف بالنموذج الروسي، الذي ينطوي على قيم الوطنية الروسية والمسيحية الأرثوذكسية.
– المجال الأوراسي
شرع بوتين في بناء اتحاد أوراسي اقتصادي يهدف لمنافسة القوى الاقتصادية الكبرى، ويعزّز نفوذ روسيا في الوقت عينه ويخدم مصالحها ومساعيها نحو المشاركة في قيادة النظام الدولي.
– إضعاف الخصوم ومنعهم من الانتصار على روسيا
تتعاطى روسيا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف الناتو على أنها قوى مناوئة لها تسعى لتقويض نفوذها. فإذا لم يستطع بوتين أن ينتصر على هؤلاء، فعلى الأقل يضعفهم ويعرقل تحقيق أهدافهم العالمية، ويمنعهم من التدخّل في الحديقة الخلفية لروسيا. وما الحرب على أوكرانيا إلا تطبيق لمبدأ منع الخصوم من إضعاف روسيا وتطويقها.
* د. ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية
المصدر: الميادين
موضوعات تهمك: