الآن، وقد بدأت الأقلام والألسنة في مداعبة الحلول “التوافقية” التي قد تنهي الحرب الروسية-الأوكرانية، فلنجتهد في محاولة تصور مشهد النهاية “المرحلية” لهذا الفصل من المواجهة الروسية-الغربية، بافتراض أن رغبة جميع الأطراف هي عدم التصعيد إلى مستويات خطيرة.
* * *
بقلم: تامر منصور
تتماوج وتتضارب التكهنات حول مدى استعداد أطراف الحرب الروسية الأوكرانية لتقديم تنازلات من أجل التوصل إلى تسوية تُنهي المواجهة العسكرية، والأهم ما هي حدود هذه التنازلات؟ لنبدأ من سؤال ما هي خيارات أوكرانيا؟ هذا هو السؤال الرئيسي المطروح، ذلك أن خيارات روسيا واضحة منذ قرار الفعل العسكري في نهاية شباط/فبراير 2022، بالسعي إلى فرض أمر واقع جديد على الخريطتين الجيوغرافية والجيوسياسية للتخوم. بما أن الأطروحات التي بدأت تطفو على سطح التحليلات، تدور في فلك البحث عن “اتفاقية”، فلنبحث في تاريخ وروح الاتفاقيات، من حيث قابلية التطبيق من جهة، والمخاوف والشكوك من جهة أخرى، طالما أن لا مكان لـ”الاستسلام” التام أو الموت الزؤام أو المعادلة الصفرية.
أطروحة معاهدة ويستفاليا
برغم اختلاف الزمان والأسباب بين واحدة من أقسى الحروب في تاريخ أوروبا، وهي حرب الثلاثين عاماً، وبين الحرب الدائرة بين روسيا (والغرب) على أرض أوكرانيا. إلا أن بعض المحللين الراغبين في الدفع باتجاه وقف النار، يستحضرون روح اتفاقية ويستفاليا، التي استمرت المفاوضات حول شروطها لمدة ست سنوات، ما بين 1642-1648، وتبدت جديتها عملياً في آخر سنتين من هذا النطاق الزمني.
ذلك يعود إلى أن اتفاقية ويستفاليا، برغم أهمية عنصر الخلاف الكنسي (البروتستانتي-الكاثوليكي) في ثنايا مفاوضاتها، اشتملت على تنازلات عن مساحات من الأراضي المتنازع عليها من قبل أطراف متعددة من ورثة، منشقين ومنافسين في ما تبقى من الامبراطورية الرومانية، في صراع يفوق بتعقيداته ما نشهده على جبهة حرب روسيا-أوكرانيا حالياً. من جانب، هناك الإمبراطورية الأسبانية، سلالة هابسبرج الملكية، دوقية بافاريا والرابطة الكاثوليكية.
في الجانب المقابل، هناك الجمهورية الهولندية، مملكة بوهيميا، إتحاد مملكتي الدنمارك-النرويج، إمارة ترانسلفانيا، مقاطعة ساكسوني. لا يحتاج الأمر أكثر من ذكر أسماء أطراف هذه الحرب شديدة التعقيد، والتي تسببت في مقتل ما بين 5 – 8 مليون أوروبي ما بين عسكري ومدني، لكي ندرك مدى سهولة ما نشهد وقائعه الآن من مواجهة على أرض أوكرانيا.
من المنطقي أن يستدعي المحللون الآن، هذه الاتفاقية، خاصة أن رؤيتهم للتسوية تتضمن بالضرورة، تنازل أحد الأطراف عن مساحات من أراضيه. وتنحصر الأطروحات – بغض الطرف عن الآراء – في أحد إحتمالين، أولهما انضمام هذه المساحات للاتحاد الروسي بشكل كامل، قياساً على ما حوته اتفاقية ويستفاليا من تنازلات متبادلة عن أراضٍ ومقاطعات تم تقسيمها بين إمارات وممالك أوروبية مختلفة؛ وثانيهما ما حملته الاتفاقية ذاتها من مفهوم، انعكس في اسم الكيان التشاوري المؤقت “الريجيم الإمبراطوري ـ Imperial Diet” الذي شُكّل في وقتها.
كان المقصود، وقتذاك، تخلي بعض الإمبرطوريات المتحاربة، وعلى رأسها بالطبع أكبرهم “الإمبراطورية الرومانية” المتهاوية عما يتخطى مساحات من الأرض، إلى اعتراف باستقلالية مقاطعات وإمارات وإن بقت تحت عرش الإمبراطوريات والسلالات الحاكمة المختلفة.
وهو المفهوم الذي قد ينطبق مع التغاير، على أقاليم لوجانسك، دونيتسك، خاركيف، خيرسون، وشبه جزيرة القرم في الحرب الحالية، بتحويلها إلى كيانات سياسية ذاتية الحكم، داخل الكيان الأوكراني، أو ربما تنازل روسيا، عما أعلنت ضمه منذ 2014 حسب الرؤية المقابلة، مع توفر ضمانات بحماية الأقليات الروسية (حقوقاُ وثقافةً)، بالإضافة إلى الهدف الأساس، وهو احترام الخط الأحمر الذي تسعى روسيا لتأكيده، بعدم عسكرة أوكرانيا وضمها إلى حلف الناتو. أي الوجهتين أكثر واقعية؟ فلنمتنع عن إعلان الآراء هنا، لمصلحة طرح الاحتمالات فوق طاولة مفاوضات متخيلة، لم يجلس عليها أي طرف حتى اللحظة.
القلق من “خيانة” يالطا
عندما اجتمع كل من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل وزعيم الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين، في منتجع يالطا الواقع في شبه جزيرة القرم، في جولة مفاوضات استمرت من 4 إلى 11 فبراير/شباط 1945، أرادوا التوصل إلى تسوية ترضي الجميع، لإنهاء الحرب العالمية الثانية، من دون تخلي السوفييت عن دول أوروبا الشرقية، وفي الجانب المقابل عدم التضحية بالشرق الأوروبي لصالح الروس.
إلا أن اتفاق يالطا لم يمنع قيام الستار الحديدي الذي حجب الضوء عن شرق أوروبا لمدة استمرت خمسة وأربعين عاماً، إلا أن السؤال المطروح ما هي صلة اتفاق يالطا بوقائع الحرب الروسية الأوكرانية؟ بينما تعكس روح يالطا، نقطة يراها الكثيرون مضيئة، في سياق قيام القوى العظمى بالجلوس للتفاوض وإظهار النوايا الحسنة بعد القضاء على الخطر النازي الألماني، وكذلك التوصل إلى تسويات تنضوي على تنازلات متبادلة من أجل صنع عالم قابل للتعايش دون تجدد المواجهات العسكرية الكبرى بين أقوى جيوش العالم، غير أن ذلك لا يحجب الرؤية الأوروبية الشرقية للاتفاق.
حيث اعتبر بمثابة خيانة أمريكية، بالتضحية بالبولنديين، الليتوانيين، اللاتفيين، الإستونيين وغيرهم من كيانات شرق أوروبا، على مذبح تسويات القوى العظمى والمصالح الكبرى. هذا ما يُفسر في وقتنا الحالي المخاوف الأوكرانية، من إحتمال تخلي الأمريكيين عنهم، في لحظة تسوية ما بين واشنطن وموسكو.
فبمجرد أن قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إحدى المرات، بطرح ما سمي خطاب “يالطا الجديدة”، أثناء أحد خطاباته في جزيرة القرم نفسها، في العام 2014، اندفعت بيوت الفكر الغربية، وعلى رأسها المجلس الأطلسي Atlantic Council ووقف كارنيجي للسلام العالمي Carnegie Endowment for International Peace، وغيرهم، ناهيك عن كم المقالات التي ملأت الصفحات الإلكترونية لمواقع سي إن إن، واشنطن بوست، رويتز وغيرهم المئات، في محاولة تحليل نبرة بوتين التوافقية، التي كانت في وقتها تدعو للتعايش، من دون الحاجة للاضطرار إلى صنع مواجهة روسية – غربية، وتأكيده على أن الأوكرانيين والروس شعب واحد.
كان ذلك منذ 8 سنوات فقط. فانظر إلى أين دفعت “حفنة من الكائنات الشيطانية”- في اقتباس لتعبير لويس فاراخان – الأمور إلى حد المواجهة العسكرية. وهي التي يقول البعض أنها فخ وقعت به روسيا. ربما آن الأوان لأن ندرك أن أي فخ سينصب في عالمنا الراهن، لن يفلت منه أحد، حتى من قاموا بنصبه.
الأهم في الأمر، كان رد الفعل الأوكراني القلق بدءاً من عهد الرئيس السابق بوروشينكو، على هذا البعث المراد لروح يالطا على لسان بوتين، وتحليلات الترحيب “المتشككة” من قبل أقلام وعقول غربية. يوازيه إعادة بعث مخاوف البولنديين والبلطيقيين وغيرهم من مواطني شرق أوروبا من غير الروس، من “تخلي” الولايات المتحدة عنهم ثانية، في سبيل التوصل إلى اتفاق يستتب عليه وضع النظام الدولي، بدلاً من استمرار زعزعته.
أصوات التوافق ووسوسات التصعيد
بالطبع، إختلف الوضع مع تغير الإدارة الأمريكية من جمهورية تحت حكم دونالد ترامب، إلى ديموقراطية على رأسها جو بايدن، لكن المخاوف التي بدت من ناحية أوكرانيا، تستمر. فهل تتخلى الولايات المتحدة عما يسمى “القيم”، التي تتمثل في “نشر الديموقراطية، حماية الحرية وحفظ حق تقرير المصير”.. اسمحوا لي بعلامة تعجب لا يمكن مقاومتها هنا! إذا كان التوصل إلى تسوية مع الروس، يعيد الاستقرار للنظام الدولي، بما في ذلك إنسيابية سلاسل الإمداد، وإطفاء فتيل أي تصعيد دولي محتمل، فإن غير المؤكد هو ما إذا كان ذلك التوجه الإطفائي، يتفق مع توجه “جميع الأصوات” داخل أروقة الإدارة الأمريكية. فهي متضاربة حقاً، بشكل يؤكد وجود (وربما سطوة) الأصوات الداعية للتصعيد.
هذا القلق الأوكراني (الشرق أوروبي) ما يزال قائماً ويحمل في طياته القلق من أن تتخذ أمريكا قراراً، يأخذ الأمور في اتجاه اتفاق تسوية مع روسيا، على حساب أوكرانيا، خاصة إذا ما استعادوا ذكريات عدم الارتياح التي أبداها الرئيس الأسبق روزفلت في وقتها، مما قام بالتوقيع عليه لتوه في اتفاق يالطا الأصلي، يصحبه توقيع ستالين.
نعم، بوتين ليس ستالين، وأمريكا بايدن ليست أمريكا روزفلت، وهذه الحقبة غير تلك الحقبة. لكن “القلق من التخلي”، لم يبرح مكانه. فهل يتفوق الصوت “التوافقي” داخل أمريكا، أم وسوسة “التصعيد”؟ إن تفوق الصوت الأول، زاد قلق أوكرانيا من إجبارها على التخلي.
وإن ساد الآخر، زاد تدمير أوكرانيا وانقسامها على أي حال. هذا هو الموقف وفق هذا الطرح. روح وعود بودابست ربما يتبقى هنا أن يتم استحضار روح “مذكرة بودابست”، التي وقعتها الولايات المتحدة، المملكة المتحدة والإتحاد الروسي أيضاً، في العاصمة المجرية بودابست، بتاريخ 5 ديسمبر/كانون الأول 1994.
هذه المذكرة تمحورت حول اتفاق القوى النووية الثلاث، على تقديم الضمانات الأمنية في ما بينها، وكذلك لدول بيلاروسيا، كازاخستان وأوكرانيا، التي وقعت بدورها على ذات المذكرة لتأكيد انضمامها لاتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية.
وقعت الاتفاقية في حضور السفير الأمريكي إلى بودابست في وقتها، دونالد بلينكن، وهو بالصدفة والد وزير الخارجية الأمريكي الحالي، توني بلينكن. ورغم اختلاف الظروف والاشتراطات بين وقتئذ واليوم، إلا أن المذكرة تحمل للأطراف الحالية ما قد يمثل خطوطاً عريضة قد توصل إلى تسوية. المذكرة تقول بوضوح في بنودها بالحفاظ على استقلال وسيادة بيلاروسيا، كازاخستان وأوكرانيا.
كذلك تؤكد العزوف عن استخدام القوة العسكرية من قبل أي من الأطراف الموقعة. التشديد على امتناع أي طرف عن استخدام أساليب الإجبار الاقتصادي بتغليب مصلحة إحدى الدول، بشكل يقوّض سيادة ومصالح الدول الأخرى. بالإضافة إلى تعهد الدول النووية الموقعة بالامتناع عن استخدام الأسلحة النووية ضد الدول غير النووية منها، مع الاتفاق على أنه في حالة نشوب الخلافات، يتم اللجوء إلى مجلس الأمن لمحاولة فضها قبل تفجرها.
الجدير بالذكر أنه حتى وقتها، كانت أوكرانيا – وراثةً عن الاتحاد السوفييتي – تملك ثالث أكبر مخزون للأسلحة النووية بالعالم. وهو ما لا ينطبق عليها اليوم. لكن تبقى الخطورة بامتلاك الطرف الآخر من النزاع الحالي، أكبر ترسانة رؤوس نووية في عالم اليوم.
وبغض النظر عن ذلك، يتبدى السؤال: ألا تُلهم مذكرة بودابست أطراف الصراع اليوم بما قد يؤسس إلى تسوية ما للوضع الراهن؟ مناخ التشكيك بين جميع الأطراف، لن يذوب بهذه البساطة. بين أصوات تنشز عن “نوايا بوتين التوسعية” من جهة. وأصوات تفضح دور أوكرانيا في طورها الحالي كـ”أداة وكز للدب”، تهدد أمنه الاستراتيجي من جهة أخرى.
أضف لذلك تشكك أوكرانيا حيال “التخلي” الأمريكي في حال تفوق الصوت التوافقي في مآل الأمر. وكذلك تشكك روسي مبرر من عدم صدقية الغرب في ما يخلقه من مشاكل، ربطاً بما قد يطرحه من حلول. شكراً أنجيلا ميركل على تصريحك “الغبي” الكاشف لدير شبيجل. يا لها من طريقة لبناء الثقة! أما التشكك الأخير والأخطر، فهو تشكك المواطن الأوكراني نفسه في جدية من يحكمونه حالياً، حين يقولون إنهم يهتمون لأمرهم ويحافظون على حياتهم.
ليس المجال هنا لسرد ما تقوله أصوات مدنية، بل وعسكرية أوكرانية من أرض المعركة عن سلطة بلادهم الفاسدة. لا ليست أصوات من العرق الروسي! صدق أو لا تصدق، لكن الأهم هو سؤال أي الخيارات من شأنه أن يفتح السبيل للتسوية (إن حدثت). يالطا، ويستفاليا أم بودابست .. أم من كل اتفاقية فقرة، حتى تهدأ الشكوك؟ مع تشككاتي.
*تامر منصور كاتب مصري
المصدر: 180 بوست
موضوعات تهمك: