بقلم: جوشوا لانديز
هل وصل النظام السوري إلى نهاية المطاف؟ مع بالغ أسفي، أقول إنه لم يصل بعد. سيتعامل الأسد مع الوضع في سوريا كما فعل في العراق ولبنان، وسيبذل كل الجهود ليمزق البلاد. أذكر في العام 2005 حين قال لي صديق مقرب من النظام السوري آنذاك، إن الأسد والعصبة حوله مؤمنون بقدرتهم على إفشال كل محاولات جورش بوش لتغيير النظام الحاكم في سوريا. وقالوا وقتها: “يعتقد بوش أن بوسعه استخدام العراق ضدنا، لكن العراق ليست بالأمة، ونحن لن نوفر جهداً في قلب السحر على الساحر، وستتحول العراق إلى مستنقع تغرق أمريكا وسطه. هذا ما فعلناه مع إسرائيل وأمريكا في لبنان في ثمانينيات القرن الماضي.”
وسيتعامل الأسد اليوم مع سوريا كما تعامل مع الملفين اللبناني والعراقي، أي أنه سيراهن على أن سوريا ليست أمة واحدة، فيعمل إذن على تمزيق أوصال البلاد. وها هو يسحب قواته من الأراضي التي تقيم أغلبيات كردية فيها، حتى أن أصدقاء لي من حلب قالوا لي إنه يسلح الأكراد هناك. وهو سيسلح العشائر العربية على أمل أن ترفض هذه حكماً مركزياً. وعلمتُ بدوري أن عدداً من عشائر حلب اجتمعوا على إدانة الجيش السوري الحر بعد استهداف الأخير لزعيم عشيرة آل بري ويدعى علي زين الدين آل بري الملقب زينو، والذي اُتهم بقيادته لعصابة من الشبيحة المسلحة الموالية للأسد. سيسلح الأسد أولئك الذين يخشون الجيش السوري الحر مثل عشائر حلب، وهو يستخدمهم أصلاً في محاولات لفرض نفوذه في حلب أيضاً. كذلك سيحاول تدمير دمشق وحلب إن هو خسر سيطرته عليها، ولن يتردد في تدميره فلا يترك للجيش السوري الحر مدينتين سليمتين معافاتين. لقد تعلم كل من حكم سوريا من التاريخ أن دمشق هي لب البلاد ومحورها، وأنه مع تدمير المدينة يستحيل حكم البلاد كلها. من هنا، سيسلح الأسد القرويين ممن همشوا في الريف أيضاً بسبب تركز الهيمنة في دمشق.
وسيكافح الأسد وقادة قواته من العلويين إلى تحويل سوريا إلى لبنان جديد بهدف النجاة، إلى بلد ممزق، بمعنى آخر، حيث لا يمكن لمجموعة أن تنفرد بالسلطة. ولعله يخسر بعمله هذا حكمه للبلاد، لكنه ربما يحافظ على حظوظه في إبقاء دور يلعبه فيها، وألا تنسف الطائفة العلوية وهي الأقلية التي ينحدر منها. وانظروا مثلاً إلى رجال الحرب وزعمائها أمثال جنبلاط وجعجع وجميّل وفرنجية لتجدوهم أمسوا أعضاء برلمان، وأسماء لها ثقل في مجتمعاتها. وأغلب تلك الشخصيات كان من الوارد، قانونياً، اقتيادها إلى محكمة دولية بسبب الجرائم التي ارتكبوا ضد الإنسانية قبل عقدين من الزمن. لقد خسرت لبنان وحدها ما بين مئة ومئة وخمسين ألفاً من مواطنيها البالغ عددهم ثلاثة ملايين خلال الحرب الأهلية. وعندما أيقن اللبنانيون جميعاً أن أحداً منهم لن يتمكن من قيادة زمام الأمور بمفرده ليفرض السيطرة على الآخرين، لم يعد بإمكانهم إلا أن يتجاوزوا كل تلك الأحداث، فيسيروا بالبلاد قدماً.
واستسلام الأسد اليوم، قد يفتح الباب أمام تصفية الكثير من قادته العسكريين، أو اقتيادهم إلى المحاكمة للمحاسبة على جرائمهم بحق مواطني بلادهم. وتخشى الجالية العلوية على شريط الساحل السوري احتمال أن تخرج من “المولد بلا حمّص”، تخاف أن “تعود بكفيّ حنين”. وليتجنب الأسد كل هذا ربما يفكر في جر البلاد إلى الخيار اللبناني؛ تحويل سوريا إلى مستنقع وبعث الفوضى بين طوائف المجتمع السوري وفئاته المختلفة. وها هو الجيش السوري يتحول إلى ميليشيا بيد الطائفة العلوية. ثم لو إن الأسد انسحب من دمشق، فلا مكان له إلا في اللاذقية وفي جبال الساحل السوري. وقلنا سابقاً في استحالة إمكانية تحويل المنطقة العلوية في سوريا إلى دولة مستقلة، لكن هذا لا يعني أنها لا تشكل مأوى للأسد وبقايا الجيش السوري. أي مثلما لم يحول المارونيون جبال لبنان إلى دولة مستقلة، بل اكتفوا باستخدامها لمنع تفوق قوات الإسلام وفرض السيادة في لبنان. وسيكون إذن أمر دحر جيش الأسد غاية في الصعوبة على المعارضة السورية، وهذا أمر بديهي في ظل انقسام أطراف المعارضة على بعضها مثلما هي الحال اليوم، فالأسد في النهاية يراهن على فشل خصومه في الاتحاد، ويواظب باجتهاد على تحويل سوريا إلى مستنقع فيحفظ ما يستطيع حفظه من قواته، ويحافظ على ما يستطيع الحفاظ عليه من أرواح أولئك الذين يلتفون حوله.
هذا ولن تنقضي الحرب في سوريا وستمضي إلى أجل غير معروف فيما لو بلغَ الأسد مبتغاه. إن نظام البعث في سوريا ينهار أصلاً وإلى زوال لا شك، ومؤسسات البلاد ودوائرها الحكومية مشلولة معظمها، والأمور خرجت عن السيطرة في أرجاء البلاد أغلبها. ثمة قوى جديدة في البلاد تزيح السلطات التي سبقتها، لكن الغالب أن يبقى جيش الأسد بحلته الجديدة قوة لا يستهان بها، ما يعني مزيداً من الغموض حول كيفية فوز طرف ما بمعركة سوريا. ستجبر القوى المتنازعة على الأرض السورية إذن على الالتزام بميثاق وطني بينها، وهذه قوى تشق اليوم طريقها لرسم معالم جديدة لها في البلاد.