هل كان بوتين يشير إلى مفاوضات فيينا ضمن أوراقه عندما حذّر بأن فرض مثل هذه العقوبات سيكون بمثابة “غلطة هائلة”؟
المعروف أن شرق أوكرانيا (دونباس) التي يحشد بوتين قواته على حدودها، يسكنها 14 مليونا يتحدثون اللغة الروسية منهم 56% من أصل روسي.
تحتاج إدارة بايدن لدور روسيا في مفاوضات فيينا النووية مع إيران التي تحتل الأولوية لديها بينما يمسك بوتين الآن بقواعد لعبة أوكرانيا الخطيرة.
ضم شريحة روسية كبيرة يساهم في تعديل النقص السكاني الروسي بالمدى القريب والبعيد لكنها حيثية لا تبدو ضاغطة لحدّ المجازفة بأزمة كبيرة في أوروبا.
محاصرة “الناتو” لروسيا هي التحدي الأهم لبوتين، ضابط الاستخبارات السابق الذي عاش العز السوفياتي ويصر على استعادة شيء من هالة الدولة العظمى لروسيا.
بوتين لاعب “استراتيجي جدّي” يتحمل خسائر آنية لتحقيق أغراض بعيدة المدى كما فعل بضم القرم ومر بها من موقع معرفته بمحدودية خيارات أميركا والآخرين.
* * *
لعبة حافة الهاوية بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين حول أوكرانيا، تصدّرت اهتمامات واشنطن منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي. وقد تكون الحدث الخارجي الأبرز للعام الحالي.
الصين في المقعد الخلفي
في حين أن التوتر بين الولايات المتحدة والصين مرشح، خلافاً للاعتقاد السائد، لأخذ المقعد الخلفي في المدى القريب، من باب أن موضوع تايوان ليس على نار حامية وأن أولوية الإدارة الأميركية في الوقت الحاضر للتبادل التجاري مع بكين.
إذ وقعت شركات الطاقة الصينية على عقود “طويلة الأجل” لشراء كميات غاز طبيعي مسيّل من الولايات المتحدة، بحيث تصبح هذه الأخيرة الثانية بعد أستراليا بتزويد الصين بنصف حاجتها من هذا المنتج الشديد الأهمية لها.
سيناريو “قرم” ثاني
وبذلك انتقل التركيز الأميركي نحو روسيا التي لا يُستبعد أن تكون في وارد العمل لتنفيذ سيناريو “قرم” ثان في شرق أوكرانيا.
والانتقال فرضه بوتين وفق توقيته، وحساباته الأميركية والأوروبية والدولية. إذ حشد قوات جدّية بحجمها ومعداتها على الحدود مع أوكرانيا، إما لانتزاع “ضمانات خطية” من واشنطن بعدم ضم هذه الأخيرة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإما التحرك “لضمان التوازن الاستراتيجي” حسب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أي القيام باجتياح الحدود.
طلب الضمانات لا تقوى إدارة بايدن على تلبيته لتصادمه مع التوجه الأميركي المعمول به منذ ما بعد الحرب الباردة لتوسيع الحلف، أو على الأقل لترك باب الانضمام إليه مفتوحاً أمام أوكرانيا وغيرها.
يضاف إلى ذلك أن الأجواء المناوئة لموسكو وبخاصة لبوتين في الكونغرس تمنع بايدن حتى لو أراد، من الاستجابة لأي مطلب روسي من هذا النوع.
تأكيد الرئيس بوتين على شروطه وبلهجة متشددة، كما تردد، خلال حديثه مع الرئيس بايدن يوم الخميس الماضي في 30/12/21 “أزعج” البيت الأبيض الذي تفاجأ بالمكالمة التي جرت بناء على طلب بوتين والتي امتدت إلى نحو ساعة، خاصة أن الطرفين اتفقا قبل أسبوع، في 27/12/21، على عقد محادثات ثنائية، دبلوماسية – عسكرية في جنيف يومي 9 و10 يناير/كانون الثاني الحالي للبحث في الملف الأوكراني.
وكان بايدن قد عقد قمة افتراضية مع بوتين قبل 3 أسابيع في 7/12/21، دامت ساعتين كانت أوكرانيا أيضاً موضوعها الأساسي. وكأن بوتين أراد من اتصال اليوم قبل الأخير من السنة، إبلاغ البيت الأبيض مسبقاً بالموقف الروسي في المحادثات.
ردت الإدارة الأميركية بتجديد التحذيرات من “العواقب” غير المسبوقة بكلفتها على روسيا لو أقدمت على ترجمة تهديداتها في حال عدم تلبية مطالبها.
غلطة هائلة
طبعاً التدخل العسكري الأميركي لحماية أوكرانيا غير وارد. لا هي عضو في حلف “الناتو” ولا بايدن في صدد مثل هذا الخيار. أقسى الرد عقوبات قصوى تشمل حرمان موسكو من التعامل بنظام التحويلات الخارجية – سويفت – في التعاملات التجارية الدولية والمبادلات بالدولار.
لكن ثمة تساؤل عما إذا كانت إدارة بايدن عازمة فعلاً على الذهاب إلى هذا الحد في وقت تحتاج فيه إلى دور موسكو في مفاوضات فيينا النووية مع إيران التي تحتل الأولوية لديها؟ هل كان بوتين يشير إلى هذه الورقة من ضمن أوراقه عندما حذّر بأن فرض مثل هذه العقوبات سيكون بمثابة “غلطة هائلة”؟
لا شك أن عقوبات من هذا العيار تؤذي روسيا واقتصادها الهابط والمتعثر، لكن بوتين لاعب “استراتيجي جدّي” كما وصفه مرة هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق ووزير الخارجية في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد؛ يتحمل الخسائر الآنية لتحقيق أغراض بعيدة المدى، فعلها في ضم شبه جزيرة القرم ومر بها من موقع معرفته بمحدودية خيارات الآخرين ومن بينهم واشنطن.
محاصرة روسيا
بالإضافة إلى مشاكلها الاقتصادية، تعاني روسيا من مشكلة سكانية تتمثل في الخلل الوازن بين الولادات والوفيات، وفي بعض التقارير إنها قادمة على خسارة “مليون نسمة” سنوياً بنتيجة هذا الخلل، مع نهايات عقد العشرينيات.
المعروف أن شرق أوكرانيا (الدونباس) التي يحشد بوتين قواته على حدودها، يسكنها حوالي 14 مليونا يتحدثون اللغة الروسية، منهم 56% من أصل روسي.
وبالتالي هناك شريحة روسية كبيرة يمكن أن يساهم ضمها في تعديل النقص السكاني الروسي على المديين القريب والبعيد. لكن هذه حيثية لا يبدو أنها ضاغطة إلى حدّ المجازفة بأزمة كبيرة في أوروبا.
محاصرة “الناتو” لروسيا هي التحدي الأهم بالنسبة لبوتين، ضابط الاستخبارات السابق الذي عاش العز السوفياتي ويصر على استعادة شيء من هالة الدولة العظمى لروسيا.
تطويقها بدول “الناتو” يكمن في أصل المشكلة التي كان الدبلوماسي الأميركي الشهير جورج كانن، مهندس سياسة الاحتواء السوفييتي بين 1947 و1952، قد حذر منها.
في عام 1997 شدد على أن “توسيع الناتو لو حصل، سيكون غلطة مصيرية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لأن من شأنه أن يلهب الروح القومية والنزعة العسكرية الروسية ضد الغرب، فضلاً عن انعكاساته على تطور الديمقراطية الروسية وحمل روسيا على العمل بسياسات لا ترضينا”.
إلى حدّ كبير كان يقرأ ما يحصل الآن من خلال الأزمة الأوكرانية، التي يبدو أن بوتين يمسك حتى الآن بقواعد لعبتها الخطيرة.
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: