فيما العالم يشهد انهيار المصرفية المركزية لا عجب أن ترامب هو «البلطجي» الرائد الذي يقود الاحتيال بعقود تسليح ورسوم جمركية وعقوبات اقتصادية وابتزاز.
في أزمة 2008 لم يؤد الدولار دور عملة الارتكاز ولم ينقذ اقتصاد أميركا ذاتها فافتًضحت «الإيديولوجيا الشائهة التي تستند إليها أصولية اقتصاد السوق»
المنظومة الراهنة لعلاقة الدولار الأميركي باقتصادات العالم والاقتصادات الوطنية و«الأسواق الناشئة» تحديدا، هي جوهر الاعتلال ومنبعه.
بقلم: صبحي حديدي
أزمة الليرة التركية هي الواجهة، وربما المرآة العاكسة، التي تخفي تأزّم مجموعة من الاقتصادات العالمية، ضمن نطاق مصطلح «البلدان النامية» القديم المتجدد؛ وتحت تسمية أخرى مستحدثة، هي «الأسواق الناشئة».
بهذا المعنى فإنّ اعتلال الليرة التركية ليس، البتة بعيداً عن مظاهر التأزم الجنينية، ولكن المضطردة، التي أخذت تعتري الروبية الهندية، والراند الجنوب أفريقي، والرينغيت الماليزي، والدونغ الفييتنامي…
كل هذه العملات داخلة في ما بينها بمبادلات اقتصادية واسعة النطاق، مترابطة تحت سقوف سياسات مالية وتجارية عابرة للعقائد والإيديولوجيات، تتبادل مؤثرات التضخم ومعدلات الفائدة والمضاربات واستقرار البورصات أو عتوّها.
وهذه حال تختلف عن الأزمة التي تعيشها عملات وطنية أخرى، خاضعة لتأثيرات تناحرية مباشرة على غرار العقوبات و/أو الرسوم الجمركية الأميركية، كما في مثال الريال الإيراني والروبل الروسي.
ولا يكفي، هنا، أن يكون الاقتصاد ذاته متيناً، والناتج القومي الإجمالي في نمو ثابت؛ وتركيا ذاتها هي الدليل الأبرز على وضعية مثل هذه. ففي العام 2001 بلغ معدل التضخم رقماً قياسياً هو 69 نقطة، ولكنه اليوم يقلّ عن 16 نقطة، وهو مرشح للانخفاض الدراماتيكي، وليس التدريجي فحسب.
الأمر الذي يعني كذلك، ومن جانب آخر، أنّ الاقتصاد في بنيته ليس قعيداً أو راكداً أو منهاراً، لكنه أيضاً لا يشهد سيطرة تامة على سوق داخلية مالية تعتمد كثيراً على التعاملات بالدولار. ويشكل تثبيت سعر الفائدة فيها ركيزة راسخة لا تتزحزح في يقين سلطات البلد الحاكمة، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في المقام الأوّل.
ورغم أنّ أزمة الليرة التركية، وكذلك تأزّم حفنة من العملات الوطنية آنفة الذكر، ليس ناجماً عن سبب واحد وحيد هو عربدة الإدارة الأميركية الراهنة، ولا عن السبب الثاني الذي يسوق نظرية المؤامرة؛ فإنّ المنظومة الراهنة لعلاقة الدولار الأميركي باقتصادات العالم جمعاء، ثمّ الاقتصادات الوطنية و«الأسواق الناشئة» على وجه التحديد، هي جوهر الاعتلال ومنبعه.
إنها منظومة اتفاقيات بريتون وودز، التي وُقّعت في ولاية نيوهامبشير الأميركية سنة 1944، وكان الاقتصادي البريطاني الشهير جون ماينارد كينز أبرز مهندسيها، وأسفرت أساساً عن ترسيخ الدولار كعملة مرجعية شبه وحيدة، مع قياس وحيد بدوره يحيل إلى الذهب.
تلك، أيضاً، هي المنظومة التي استولدت مؤسسات النظام الرأسمالي المعاصر، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، واتفاقيات «غات» GATT، ومنظمة التجارة الدولية… ورسمت لها الوظائف والاشتراطات التي أتاحت الهيمنة الأميركية على أقدار الكون الاقتصادية، ثمّ السياسية والعسكرية استطراداً.
وخلال أزمة المصارف الأميركية للعام 2008، أو «11/9 المالية» حسب التعبير الشهير الذي اقترحه المعلق الأميركي توماس فريدمان، لم يفلح الدولار في أداء دور العملة المرجعية وانتشال اقتصاد أميركا ذاتها؛ فكان أن افتًضحت «الإيديولوجيا الشائهة التي تستند إليها أصولية اقتصاد السوق»، حسب الاقتصادي الآسيوي البارز هنري ليو.
والرجل لا يكتفي بالحديث عن أنظمة صرف وتعامل «سوبررأسمالية» و«سوبرإمبريالية»، بل يرصد انحطاطها إلى «إمبريالية مالية» عملاقة أخذت تأكل نفسها في غمرة اندفاعها إلى التهام الآخرين.
والمرء يستذكر هنري ليو في قراءة معضلات العملات الوطنية تحديداً، حين اعتبر أنّ رأسمالية اقتصاد السوق تحوّلت إلى «مخطط بونزوي»، نسبة إلى الأميركي شارلز بونزي، أحد أكبر النصّابين في ميادين المصارف والإقراض والاستثمار.
وأنّ العالم يشهد انهيار نظام العمل المصرفي المركزي الذي ولد في أميركا ذاتها سنة 1913. ليست مفارقة، إذن، أن يكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو «البلطجي» الرائد الذي يقود مخططات «بونزي»، عبر عقود تسليح هنا، ورسوم جمركية هناك؛ وعقوبات على هذا الاقتصاد، أو ابتزاز لتلك السوق…
وبعد 74 سنة على إقرار منظومة بريتون وودز، ما تزال مرجعية الدولار محنطة في ردهات البورصة، حيث محراب الرأسمالية المعاصرة الذي ينتج ويعيد إنتاج أصولية اقتصاد السوق، الأسوأ على امتداد التاريخ البشري.
- صبحي حديدي كاتب سوري مقيم بباريس.
المصدر: القدس العربي