في إطار مشروعه التثقيفي “حكاية كتاب” .. قدم مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية حكاية كتاب «الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان» لفضيلة الإمام الأكبر/ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى (1293هـ /1876م – 1377هـ/1958م).
مؤلف الكتاب في سطور
– هو الإمام الأكبر فضيلة الشيخ: محمد الخضر حسين – شيخ الأزهر الشريف الأسبق.
– ولد لأسرة من أصل جزائري في بلدة نفطة -جنوبي تونس-.
– كانت «نفطة» واحة زرع خضراء، وموطن علم وعلماء؛ حتى إنها لُقِّبت بالكوفة الصغرى.
– عاش الإمام في تونس وسورية ومصر والجزائر – وتُوفِّي في القاهرة.
– تلقى أولى مراحله التعليمية ببلدة نفطة التونسية، ثم التحق بجامع الزيتونة عام 1887م لاستكمال دراسته؛ حيث تكونت شخصيته العلمية والدينية والثقافية.
– عمل مُدرسًا بجامع الزيتونة، وحضر المجالس العلمية والأدبية مُشاركًا نشطًا؛ الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة في أوساط طلاب وعلماء زمانه.
– تولى القضاء بمدينة بنزرت التونسية عام 1905م؛ وما لبث أن استقال وتطوع للتدريس في جامع الزيتونة.
– حاولت السلطات الفرنسية ضم الشيخ إلى المحكمة الفرنسية فرفض بشدة، وفي عام 1911م وَجَّهت له تهمة إثارة روح العداء ضد سلطات الحماية الفرنسية في المغرب العربي؛ مما اضطر الشيخ للتنقل بين البلدان إلى أن استقر به الأمر للإقامة في دمشق.
– أسس مجلة السعادة العظمى عام 1904م، وهي أول مجلة عربية ظهرت في تونس، وكانت تصدر كل نصف شهر، ولم يصدر منها سوى 21 عددًا ثم انقطع صدورها، وقد كان الشيخ يكتب أغلب مقالاتها.
– كما كتب في مجلة الهداية الإسلامية، ونور الإسلام (مجلة الأزهر حاليًا)، ولواء الإسلام، والمنار، ومجلة الفتح بالقاهرة، ومجلتي الدر والفجر التونسيتين.
– كان عضوًا بالمجمع العلمي العربي بدمشق عام 1919م، وفي عام 1933م اختير عضوًا للمجمع اللغوي بالقاهرة، كما كان واحدًا ممن أسسوا جمعية الهداية الإسلامية عام 1928م، وكان رئيسًا للرابطة الإسلامية التي تدعو إلى الوحدة بين بني الإسلام.
– له جهد بارز في الدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والأخلاقي، إضافة إلى مشاركاته السياسية الرصينة بقلمه وفكره آنذاك.
– حصل على عضوية هيئة كبار العلماء برسالته «القياس في اللغة العربية» عام 1950م.
– اختير لمنصب «شيخ الأزهر» في 26 ذي الحجة 1371 هـ / 16 سبتمبر 1952م، واستقال من مشيخة الأزهر -بعد أقل من سنتين- في 7 يناير عام 1954م – 2 من جمادى الأولى 1373 هـ، ولم يتولَّ مشيخة الأزهر عبر تاريخها شيخ من خارج مصر إلا هذا الإمام المجدد رحمه الله تعالى ورضي عنه.
[أسلوب الكاتب، وهدفه من تأليف كتابه]
يُعدّ هذا الكتاب من روائع فكر الإمام العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى؛ فقد جاء في مباحث دينية في أصول الدين، وأصول الفقه، والأحكام العملية، والفتاوى، أُلقي بعضها في محاضرات بقسم التخصص بكلية أصول الدين إحدى كليات جامعة الأزهر الشريف، وبعضها أُلقي في نوادٍ وجمعيات إسلامية مختلفة، وبعضها نُشر كمقالات في مجلة «الهداية الإسلامية» التي كان يرأس تحريرها، ويصدرها، ومجلة «نور الإِسلام» التي كان يرأس تحريرها، ويصدرها الأزهر آنذاك.
والقارئ البصير يجد بين سطور هذا الكتاب شخصية عالم جليل مُتضلع من علوم الشريعة، يقدم الأفكار الكبيرة المتخصصة في أسلوب سهل يفهمه القارئ من أقرب طريق، ويطرح تساؤلات مهمة في موضوع حديثه ثم يجيب عليها، كما يهتم بذكر آراء الأئمة المحققين في المسائل الخلافية.
والمتأمل في تاريخ الفكر الإسلامي لن يقف على مؤلفات مستقلة اعتنت بالدفاع عن الشريعة الإسلامية، وبيان صلاحيتها لكل زمان مكان قبل الغزو الاستعماري لبلاد العالم الإسلامي.
وقد دفع المؤلّفَ إلى تأليف كتابه ما شاهده في عصره من تأثر بعض المسلمين بالدّعاية الاستعمارية المُضادة للشريعة الإسلامية وأحكامها، وما لمسه من انتقاد وانتقاص لها، وإرادة عزلها عن مناحي الحياة، واستبدال القوانين الوضعية بها؛ بغض النظر؛ هل وافقت هذه القوانين الشرع أم خالفته! بزعم أن الشريعة الإسلامية لا تصلح إلا للزمان الذي نزلت فيه، ولا تصلح لزماننا.
فأراد المؤلف من خلال صفحات كتابه أن يدحض هذا الزعم المُتهاوي؛ مُقررًا أن جميع الأزمنة والأمكنة لا تنصلح إلا بالشريعة الإسلامية الشَّريفة وأحكامها، ومُبينًا ما أودعت من مقومات وخصائص أهَّلتها لـ:
– مواكبة تطورات الزمان والمكان.
– ومناسبة أحوال الناس المختلفة.
– واستيعاب مستجدات الحياة الحاضرة والمستقبلية.
وعضّد ذلك بشروح وأمثلة وبيّنات لم تدع مجالًا لطعن طاعن، وكان ذلك منه -رحمه الله- قيامًا بفريضة من فرائض العقل المسلم، وتلبية لضرورةٍ من ضرورات الواقع الذي عايشه وعالجه.
[بين يدي الكتاب]
إن أحكام الشريعة الإسلامية لهي معالم الطريق الذي يسلكه الإنسان المسلم في حياته؛ ليترجم عن اعتقاده المستكن في قلبه وضميره، هذه المعالم لا تخصّ جانبًا من جوانب الحياة دون الآخر، ولا طورًا من أطوار عمر الإنسان دون غيره، ولا الإنسان في بيئة دون أخرى.
وقد جاءت صفحات الكتاب مُؤصلة لهذه الفكرة، ومُثبتة بالدليل المرئي رأي العين أنّ الشريعةَ الغرَّاءَ عامةٌ تساير كل عصر، ودائمةٌ تحفظ مصالح كل جيل.
وقد تناول الكاتب في كتابه ثلاثة محاور رئيسة؛ ليقرر من خلالها صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وهي:
أولًا: الاجتهاد؛ باعتبار أنه بوابة تجديد الدين، وأداة الشريعة لاستيعاب تباين الأزمنة والأمكنة والأحوال.
ثانيًا: رعاية سائر أحكام وقوانين الشريعة لأصلين مهمين هما: حفظ المصالح، ودرء المفاسد.
ثالثًا: بيان الأصول التي جعلت الشريعة تسع مقتضيات العصور على اختلافها، وتقوم بحاجات الشعوب على تباعد ما بينها.
– وقد استدعى الكاتبَ للكلام عن الاجتهاد ما لهذا المبحث من منزلة عظيمة؛ فمعظم أحكام التشريع الإسلامي تعتمد عليه؛ إذ العالِم لا يمكنه استنباط الأحكام الشرعية إلا بمعرفة أمرين، هما:
(1) الأدلة الشّرعية السّمعية (الكتاب والسنة والإجماع..) التي تنتزع منها القواعد والأحكام.
(2) وجوه دلالة اللفظ (دلالة المنطوق والمفهوم..) المعتد بها في لسان العرب، واستعمال البلغاء.
ومن كان على بصيرة من الأدلة السمعية، ووجوه دلالتها، وطرق الترجيح بينها عند تعارضها؛ فقد قبض على زمام الاستنباط، واستعدّ لأن يجلس على منصة الاجتهاد.
ثم أتبع الكاتبُ كلامه عن منزلة الاجتهاد بذكر شرائط المجتهد التي يجب أن تتوفر فيه؛ حتى يكون مُؤهّلًا للنظر والاجتهاد، والتي منها: العلم بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والمذاهب الفقهية، ومواقع الإجماع، وأن يبلغ درجة الاجتهاد في أصول الفقه، واللغة العربية، وأن يكون من القائلين بأصل القياس (وليس من نفاته كالظاهرية)، وأن يتصف بالعدالة والاستقامة كشرط لقبول الاجتهاد.
– انتقل الكاتب بعد ذلك إلى المحور الثاني؛ ليبين أن الأحكام والقوانين العادلة التي يتوصل إليها المجتهد لا بد وأن تقوم على رعاية وحفظ المصالح، ودرء المفاسد؛ سيما وأنه لا خلاف بين علماء الإسلام على أن أحكام الشريعة قائمة على رعاية هذين الأصلين.
وإذا كانت المصالح والمفاسد قد تخفى في بعض ما يشرع على أنه عبادة؛ فإن الأحكام المشروعة لغير العبادات من آداب الاجتماع ونظم المعاملات والجنايات لا تقصر العقول السَّليمة عن إدراك أسرارها، ومن الميسور تقريرها على وجه يظهر به فضل الشريعة السَّماوية على القوانين الوضعية.
وينوه الكاتب في هذا الشأن إلى أن تغير الحكم باعتبار المصالح والمفاسد لا ينسحب على الأحكام كافة؛ إذ الواقعة قد تشتمل على مصلحة أو مفسدة ثابتة لا تختلف باختلاف العصور والمواطن، ومثال ذلك (القصاص)؛ لما فيه من زاجر للنفوس عن الاعتداء على الآخرين، وهو ما لا يتغير بتغير الزمان أو المكان.
– ينتقل الكاتب بعد ذلك للمحور الثالث؛ مُبينًا الأصول التي جعلت الشريعة تسع مقتضيات العصور على اختلافها، وتقوم بحاجات الشعوب على تباعد ما بينها، ومنها:
(1) القياس: بعد تقرير أن الأحكام دائرة بين حفظ المصالح ودرء المفاسد، صحّ للمجتهد أن يعمد إلى كل واقعة مُستجدة تحقق مصلحة أو تفادي مفسدة فيسوي بينها وبين الواقعة المنصوص عليها، وذاك هو (القياس)، ومن هنا يتضح أن القياس أصل يتسع به نطاق الشريعة، ويُدخل في دائرتها عددًا لا يتناهى من الوقائع والمسائل، ويتضح -كذلك- أن من أنكره سار في غير سبيل، واعتمد على غير دليل.
(2) الاستصحاب: وهو ثبوت أمر في الزمن الحاضر بناءً على ثبوته فيما مضى، فالأمر الذي عُلِم وجوده ثم طرأ الشك في عدمه فالأصل بقاؤه، والأمر الذي علم عدمه ثم عرض الشك في وجوده فالأصل استمراره في حال العدم؛ لهذا اختار كثير من المحققين أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى ينهض الدليل على ما سوى ذلك من الأحكام، وهو أمر يدل على سماحة الإسلام، وصلاحية شريعته لمواكبة المستجدات.
(3) العُرف: لمّا كان للعادات أثر كبير في تشريع النظم والقوانين؛ كان لا غنى للمشرع عن مراعاتها قليلًا أو كثيرًا، وكان من القواعد التي تدور معها أحكام الشريعة السّمحة: (العادة مُحَكَّمة)؛ فبمراعاة العرف يصحّ أن تختلف أحكام بعض الوقائع باختلاف المكان والزمان، ولا يُعَدُّ ذلك اختلافا في أصل خطاب الشارع، وإنما معناه أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حُكمًا يلائمها، وبمثل هذا الأصل يُعلم أن الشريعة الإسلامية ملائمة لكل زمان ومكان.
(4) سدّ الذرائع: من أعمال الإنسان وأقواله ما يشتمل على المفسدة بنفسه، ومنها ما لا تنشأ عنه مفسدة مباشرة؛ بل يكون وسيلة إلى عمل أو قول فيه مفسدة كمناولة السكين لمن يسفك دمًا معصومًا.
ومن حكمة التشريع الإسلامي أنه لم يقصر النظر على ما يحتوي المفسدة بنفسه؛ بل وجَّهه إلى وسائل هذه المفسدة، وسَدَّ ذريعتها ووسائلها؛ للحيلولة بين الناس وما يُفضي إلى كثير من مواقع الفساد؛ بإعطاء الوسائل أحكام مقاصدها.
وكما نظر الشارع إلى وسائل الفساد فسدَّها؛ نظر -كذلك- إلى وسائل ما فيه صلاح ففتحها بالإذن فيها، والحثِّ عليها.
(5) المصالح المرسلة: ويقصد بها المصلحة التي لم يرد دليل على مراعاتها أو إلغائها؛ وإنما يقضي المجتهد فيها على قدر ما يراه من صلاح.
كأن الشارع يقول للذين أوتوا العلم: إذا عرض لكم أمر فيه مصلحة ولم تجدوا في الأدلة التي بين أيديكم ما يدل على رعايتها أو إلغائها؛ فزنوا تلك المصلحة بعقولكم الراسخة في فهم المقصود من التشريع، وفصلوا لها حكمًا يطابقها.
(6) الاستحسان: وهو عدول المجتهد عن الحكم الكلي إلى حكم استثنائي لدليل رجَّح لديه هذا العدول، أو هو ترجيح أحد الدليلين المتعارضين فيما يتراءى للمجتهد أولًا لنظر.
ولا شك أن الاستحسان بهذا التعريف أو ذاك لدليل على دقة أنظار علماء الشريعة؛ إذ كانوا لا ينساقون في تقرير الأحكام إلى ما يتبادر لهم في الاستدلال إلا بعد النظر في الواقعة من جميع وجوهها.
كل هذا وغيره عرضه الكاتب، وساق عليه الشواهدَ العلمية لكبار القضاة وأعلام الفتوى؛ بحيث لا يكون في صدر القارئ حرجًا من مزاعم مثيري الشبهات حول الشريعة الإسلامية ومدى ملاءمتها لواقعنا بين آنٍ وآخر.
وقد أظهر الكاتب براعة كبيرة في استخدام الأمثلة على الموضوعات المطروحة، بالإضافة إلى اهتمامه بتقسيم الأبواب، وتَعداد أقوال الفقهاء بإيجاز.
ورغم كل المحاسن التي حوتها صفحات الكتاب التي قاربت المائة صفحة إلا أنه كَطبِيْعَةِ أيِّ عمل بشريٍّ؛ -مهما بُذِلَ فيه من جهودٍ- لا يصل إلى درجة الكمال؛ ولا يخلو من انتقادات.
وقد يكون من بين هذه الانتقادات إكثار كاتبه من ذكر فروع مذهبه -مذهب المالكية- مقارنة بباقي المذاهب، بالإضافة لتركه عزو بعض الآراء إلى القائلين بها.
وبالتأكيد لم نقصد في هذا التعريف تتبع جميع ما للكتاب أو عليه؛ وإنما قصدنا إعطاء القارئ تصوُّرًا عامًّا عن الكتاب ومؤلفه، يدعوه إلى قراءته، ويعينه على فهم الكتاب وأسلوب كاتبه.
Sorry Comments are closed