نحترق بنيران التجارب فنطلع منها وقد خُلقنا من جديد، وفي كلّ تجربةٍ مهما كانت بسيطة هناك دروس كثيرة قد نكتشفها في حينها أو تدريجياً.
التجارب قيّمة وغالية لذلك نبدو رابحين، في النهاية، مهما تحسّسنا أوجاعنا بعد كلّ تجربة مريرة عشناها، ومهما أحصينا من خسائرنا ساعة الحساب النهائي.
نعم… نحن صنائع التجارب التي تمرّ بنا ونمرّ بها، نعيشها بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، ولا نكتشف أنّها تجارب، إلّا بعد أن تنتهي ونغادرها إلى تجارب أخرى.
ما بكينا ليلة كاملة بسبب عدم تحققه لنا أو عدم حصولنا عليه ذات عمر، قد يأتي عمر آخر فنصلّي لله حمداً وشكراً أنّه لم يتحقق، وأنّنا لم نحصل عليه في ذلك الوقت!
الغريب أنّنا غالباً لا نحاول تذكّر تلك التجارب التي مررنا بها إلّا في حالات فشل جديد كأنّها عزاء لنا. نتذكّر لنعزّي أنفسنا بما نعيشه من ظروفٍ صعبة أو علاقات مرهقة!
* * *
بقلم: سعدية مفرح
سألتني طالبة جامعية تدرس في كلية الإعلام، وتتدرّب معي على فنون الصحافة عملياً، عن أهم تجربة حياتية أو عملية، مررت بها، وأثّرت على حياتي كلّها.
فكّرتُ طويلاً قبل أن أجيبها. كنت أتذكّر كلّ ما مرّ في حياتي من تجارب مهمة أو كبيرة يمكنها أن تكون قد أثّرت على حياتي كلها. وبعد تفكيرٍ استعرضت فيه شريط العمر، فشلت في حصر إجابتي في تجربةٍ واحدة.
يبدو أن كل تجارب حياتي قد ساهمت فعلاً في تكويني سلباً أو إيجاباً. قلت للطالبة المجتهدة إنّنا صنائع كلّ التجارب التي مرّت بنا، سواء تذكّرناها أم لم نتذكّرها. هناك كثير من أطيافها كامنة في القاع تنتظر فرصة للظهور في الوقت المناسب لها ولنا.
وما نرصده اليوم باعتباره التجربة الأهم في الحياة قد تتغير مرتبته في الغد. وبالتالي، كلّ تجاربنا مهمة وكبيرة، حتى إن بدت لنا أحياناً صغيرة أو تافهة أو مجرّد ذكريات عابرة.
يظنّ بعض المخدوعين بلعبة الأرقام في الأعمار أنّ التجارب تخصّ المسنين وحدهم. وبالتالي، لا يجيد الحديث عنها، ولا الاعتراف بفضلها إلّا هم. لكنّ التجربة وليدة العيش في هذه الحياة، وهي نتيجة الحركة والعمل منذ بدء لحظة الوعي وتكوّن الذاكرة. نحن صنائع تجاربنا الساكنة في أعماق ذاكرة كلّ منا، لتكون له ملامح شخصيته وطريقته في العيش لاحقاً.
والتجارب التي يحلو لنا أحياناً أن نسمّيها الذكريات آثار متغيرة ومختلفة، وفقاً لتغيرات ظروفنا وما يمرّ بنا في حيواتنا على هذه الأرض، فما يمكن أن يكون ذكرى قاسية لنا اليوم يُحتمل أن يتحوّل إلى إحدى أجمل ذكرياتنا في يوم آخر.
وما بكينا ليلة كاملة بسبب عدم تحققه لنا أو عدم حصولنا عليه ذات عمر، قد يأتي عمر آخر فنصلّي لله حمداً وشكراً أنّه لم يتحقق، وأنّنا لم نحصل عليه في ذلك الوقت!
حدث هذا لي فعلاً مرّات كثيرة، ولا أشك لحظة واحدة أنّه حدث لنا كلنا، سواء أكنا على وعي به أم لا، فالمهم أنّ تجاربنا تتغير في ما تتركه من آثار علينا، ولعلّ هذا من مميزاتها ومن خصائصها في تغييرنا، من حيث ندري ولا ندري أحياناً!
نعم… نحن صنائع التجارب التي تمرّ بنا ونمرّ بها، نعيشها بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، ولا نكتشف أنّها تجارب، إلّا بعد أن تنتهي ونغادرها إلى تجارب أخرى.
نحترق بنيران التجارب فنطلع منها وقد خُلقنا من جديد، وفي كلّ تجربةٍ مهما كانت بسيطة هناك دروس كثيرة قد نكتشفها في حينها أو تدريجياً.
تمرّ أيام وشهور، وأحياناً سنوات طويلة، فنتذكر ما مضى من دروس التجربة، ونتحسّس ما خلفته في أعماقنا من نُدُبٍ لا تختفي، حتى إن اجتهدنا في محاولة إخفائها.
والغريب أنّنا غالباً لا نحاول تذكّر تلك التجارب التي مررنا بها إلّا في حالات الفشل الجديد، وكأنّها عزاء لنا. نريد أن نتذكّر لنعزّي أنفسنا بما نعيشه، من ظروفٍ صعبة أو علاقات مرهقة!
والتجارب قيّمة وغالية. ولذلك نبدو رابحين، في النهاية، مهما تحسّسنا أوجاعنا بعد كلّ تجربة مريرة عشناها، ومهما أحصينا من خسائرنا ساعة الحساب النهائي.
نحن الرابحون بما يتبقى لدينا من قوة صقلت بنار التجربة الوهاجة، وبقيت تقاوم لسعاتها حد الاحتراق، فتنبعث من الرماد، لتعلن انتصارها الأبدي. ولذلك، تستحق تجاربنا أن نحتفي بها برصد ما نتذكّره منها، وبمحاولة تذكّر البقية.
سنجد في المحصلة تجارب كثيرة تتناسل من أخرى، وتذكّرنا بغيرها، وتوحي لنا بمزيد منها. تلك هي الحياة، وذلك هو العيش في ظلالها. فما دمنا على قيدها لا بدّ من أن نكون وقود التجارب، لكنّه الوقود الذي لا ينتهي، ولا بد للتجارب أن تكون وقود الحياة المنتهية أخيراً.
* سعدية مفرح كاتبة صحفية وشاعرة كويتية
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: