حرب اقتصادية ومقاطعات متزايدة وقيود متكاثرة ضد روسيا ومن ثم ردود فعل روسيا عليها، وتوقعات متضاربة عن الغلاء والبطالة،
هل ستجتمع ظروف الصراع لتحوّل الحروب بالوكالة إلى حروب بين الكبار، أي إلى حرب عالمية جديدة تهدّد مصير البشرية بكاملها؟
هل الظروف التي نشهدها بأوروبا وروسيا وأميركا وغيرها تتقاطع مع الأسباب المؤدّية للحربين الأوليين فيصبح التنبؤ بحربٍ عالميةٍ ثالثة أمراً وارداً؟
من أسباب الحربين العالميتين صعود المشاعر القومية داخل كل دولة ما دفع المروجين الشعبويين لها إلى زيادة الاحتكاك مع القوى القومية بدول أخرى مجاورة ومنافسه.
* * *
بقلم: جواد العناني
هناك أرقام كثيرة متداولة تسعى إلى تقدير كلف الحروب ومشتريات السلاح في العالم. وعندما تصنع منظومة هرمية من هذه الأرقام تخرج بحقائق مفجعة عن أعداد الضحايا، والأموال والثروات الهائلة التي أهدرت في التدمير الناجم عن الحروب، وفي الأموال التي رصدت لمعالجة المصابين جسدياً ونفسياً بسببها.
وكم تبلغ الكلف التي تكبدها العالم في الحرب العالمية الأولى، بعدما بدأت فترة القرون الاستعمارية في التآكل، وتحوّلت أوروبا إلى دول متناحرة، وازدهرت فيها مشاعر القومية. ويقول المؤرخون في دراساتهم عن المقارنة بين أسباب الحربين العالميتين، الأولى والثانية، إن كلتيهما نتجتا عن صعود المشاعر القومية أو الوطنية داخل كل دولة، ما دفع المروجين الشعبويين لهذه الأفكار إلى زيادة الاحتكاك مع القوى القومية في دول أخرى مجاورة ومنافسه لها.
ولذلك، نتجت الحرب العالمية الأولى عن التحوّل إلى القوميات الوطنية داخل الدول الأوروبية، وصارت كلها مسؤولة في نهاية الأمر عن اندلاع الحرب. ولكن لمّا وضعت الحرب أوزارها عام 1918، وافقت ألمانيا مضطرّة على قبول معاهدة فرساي عام 1919، بما فيها تحمّلها كامل المسؤولية عن تلك الحرب.
وقد مَهَّد هذا الأمر إلى فرصة لحزب ألماني يميني متطرّف بقيادة أدولف هتلر ليكرّس شعور المهانة لدى الشعب الألماني بسبب المعاهدة، ويؤلبه ضدها، ويسعى إلى الانتقام لكرامته بسبب تلك الحرب. ولهذا قبل المؤرخون الأوروبيون والأميركيون فكرة أن ألمانيا هي المسؤولة الأولى عن الحرب العالمية الثانية، ولكنهم يقرّون أيضاً أن معاهدة فرساي بشروطها المجحفة ضد ألمانيا هي التي وفرت البيئة الخصبة داخلها للدخول في تلك الحرب.
وبمزيد من القراءة عن الجوامع والفوارق بين الظروف والمحفزات لكلتا الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، يكتشف الباحث غير المختصّ بالتفاصيل أن الأسباب التي أدّت لاندلاع الحربين الأوليين قد تساعدنا في الإجابة عن السؤال: هل الظروف التي نشهدها حالياً في أوروبا وروسيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول تتقاطع مع الأسباب المؤدّية إلى الحربين الأوليين، فيصبح التنبؤ بحصول حربٍ عالميةٍ ثالثة أمراً ممكناً ووارداً، أم أن هذه المقارنة هي في أساسها خاطئة، وتقوم على مغالطات منطقية”؟
إذا كنا نبحث عن انتشار الأفكار القومية داخل الدول الكبرى، وعن انتشار هذه الظاهرة أكثر وأكثر في الدول المؤثرة، ولكن غير العظمى، فسنرى أن هذا حاصل حالياً… روسيا التي خرجت بعد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي، والدخول في مرحلة “بيروسترويكا”، شعرت بالمهانة التي تعرّضت لها، والتي وجدت ضالتها في شخص فلاديمير بوتين الذي استطاع، بفضل ذكائه والكاريزما التي يتمتع بها، أن يعيد الاعتزاز القومي لروسيا الجريحة.
وصار يبحث له عن دور أوسع إقليمياً ودولياً. وساهم الإعلام الغربي في الإشارة إليه على أنه يتطلع إلى إعادة مجد القياصرة (فريدريك العظيم وإيفان الرهيب)، أو استعادة الاتحاد السوفييتي، ولذلك صار بوتين هدفاً واضحاً للهجمات الإعلامية الغربية، ما عزّز مكانته سياسياً داخل بلده، فتحوّل تدريجياً إلى مشروع “دكتاتور” قلما يقبل بكلمة “لا” من أعوانه.
وفي الولايات المتحدة، نرى أن المحافظين الجدد والمتدينين المتصهينين بزعامة دونالد ترامب يمارسون تأثيراً كبيراً. وبسبب الأغلبية التي يتمتعون بها داخل محكمة العدل العليا، تمكّنوا، أخيرا، من عكس القانون الذي كان يسمح بالإجهاض، على أساس أن الجنين، بغض النظر عن عمره في رحم والدته، لا يجوز أن يُغْتال باسم “حق المرأة في الدفاع عن حقها في الحمل”.
وإذا تمكن الحزب الجمهوري في منتصف الانتخابات النصفية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل من الفوز بأغلبية المقاعد في الكونغرس (مجلسي الممثلين والشيوخ)، فإنه سوف يعزّز أكثر المشاعر الوطنية، خصوصا لدى المسيحيين البيض، وستصبح الأمور هنالك أكثر تعقيداً.
وبالكاد نجت فرنسا من فوز الحزب اليميني المتطرّف بقيادة مارين لوبان برئاسة الدولة. ولكن ظاهرة التفرّد القومي داخل فرنسا لم تنته، بل ولربما تزداد قوة وعنفاً ضد الأجانب وغير البيض.
وبعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فإن مشاعر القومية فيها آخذه بالتوسع، على الرغم من محاولات الليبراليين التملص من هذا القيد القوي. وفي ألمانيا، ترتفع مشاعر الاعتزاز بالإنجاز الألماني. وتوفر الظروف الحالية مزيداً من فرص العسكره داخل ألمانيا، والتحرّر من القيود على التسلح التي فُرِضت عليها بعد الحرب العالمية الثانية.
ونرى المظاهر نفسها في أسبانيا، وإيطاليا، والدول الصغرى، مثل هنغاريا، وبولندا، وحتى رومانيا، وبلغاريا. ويمتد الأمر إلى إسرائيل التي تحولت إلى دولة أبارتهايد وتمييز عنصري تتخذ من مكافحة الإرهاب غطاء واضحاً للتنكيل بالفلسطينيين. وقد جاءت ردّة الفعل الإسرائيلية والصهيونية عنيفة ضد تصريحات وزير خارجية روسيا، لافروف، للتلفزيون الإيطالي بأن دماء يهودية كانت تسري في هتلر.
ويفتح هذا التصريح الباب على اجتهادات أخرى لا تحبّها إسرائيل. ولذلك، ستّتخذ الحركة الصهيونية من روسيا، ومن نظام الرئيس بوتين هدفاً لها. أما الهند بقيادة رئيس الوزراء الحالي، نارندرا مودي، فهي دولة تتمحور حول القومية الهندوسية، رغم ادّعاءات قادتها أن التنوع العرقي واللغوي والديني فيها هو مصدر غناها وتقدّمها. وهذا سينتج ردود فعل في باكستان، وبنغلادش وفي غيرها من الدول الآسيوية المجاورة.
لذلك يثور السؤال: في ظل احتمالات الحرب الاقتصادية والمقاطعات المتزايدة والقيود المتكاثرة ضد روسيا وروسيا البيضاء، ومن ثم ردود فعل روسيا عليها، وفي التوقعات المتضاربة عن الغلاء والبطالة، هل ستجتمع هذه الظروف لتحوّل الحروب بالوكالة إلى حروب بين الكبار، أي إلى حرب عالمية جديدة تهدّد مصير البشرية بكاملها؟ هذا السؤال برسم الإجابة.
* د. جواد العناني سياسي وخبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء رئيس الديوان الملكي الأردني الأسبق.
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: