تُعدّ تكتيكات «حرب المنطقة الرمادية» التي تعتمدها الصين «فعّالة للغاية»!
على مائدة صنع القرار في بكين خيارات عسكرية عديدة لمضاعفة الضغط على تايوان.
هل يكون الخيار العسكري قبل الهجوم الشامل حصار الجزيرة بالسفن الحربية وحظرٍ جوّيٍ فوقها وقيام الغوّاصات بقطع كابلات الاتصالات وعزلها عن العالم؟
آخر الخيارات وأصعبها هجوم شامل بالقاذفات والمقاتلات والصواريخ وإنزال مئات آلاف الجنود من البحر والجوّ بغطاء ناري ومواجهة قوات تايوان داخلها حتى تستسلم.
تُعوّل تايوان لردع الصين، على القوات الأميركية التي تَملأ قواعدها العسكرية المحيط الهادئ حيث ستأتي منها الاستجابة الأميركية الأولى إذا قرّرت واشنطن التدخُّل عسكرياً.
* * *
بقلم: صهيب العتر
كثّفت الصين نشاطها العسكري حول تايوان، عقب زيارة بيلوسي (نانسي) رئيسة مجلس النواب الأميركي للجزيرة التي تَبعُد عن البرّ الرئيسي، في أضيق نقطة من المضيق البحري الذي يفصل بينهما، 130 كلم.
ورغم أن الردّ الصيني على الزيارة الأميركية، لم يكن بمستوى التحذيرات التي أطلقها المسؤولون الصينيون، إلا أن بدء الجيش الصيني مناورات عسكرية أحاط بها تايوان بشكلٍ غير مسبوق في تاريخه، وإِطلاقه لأول مرّةٍ صواريخ باليستية عبرت فوق الجزيرة، وحلّق أحدها فوق تايبيه، عاصمة تايوان.
كل ذلك مثّلَ ارتقاءً في «حرب المنطقة الرمادية» التي تخوضها الصين ضدّ تايوان، لإرغام الأخيرة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وصولاً إلى إنزالها تحت سيادة الصين، دون اضطرار لإخضاعها بالقوة العسكرية، عبر الهجوم الشامل.
وتُعدّ تكتيكات «حرب المنطقة الرمادية» التي تعتمدها بكين «فعّالة للغاية»، وفق القائد السابق للجيش التايواني، الأدميرال لي هسي مينغ.
وهي تقوم على تنفيذ المقاتلات الصينية عمليات توغُّلٍ في «منطقة تحديد الدفاع الجوي» (ADIZ) التايوانية، التي تمتدُّ إلى ما بعد المجال الجوّي للجزيرة، إضافةً إلى اختراق السفن الحربية الصينية «خطّ الوسط» الذي يشطرُ المضيق نصفَين، في ما يُشبه حدوداً بحرية غير رسمية، بين تايوان والبرّ الرئيسي.
وفي كلّ مرّةٍ يتوغّل فيها الجيش الصيني في منطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية، أو يتجاوز فيها «خطّ الوسط»، يستنفر الجيش التايواني مُقاتليه لاعتراض المقاتلات والقطع البحرية الصينية، وفي بعض الأحيان، يضع منظومات دفاعه الجوّي في حالة التأهّب، ما يُكلّف الخزينة التايوانية مئات ملايين الدولارات سنوياً، ويُبقي المُدافع التايواني «على أعصابه» طوال الوقت.
يصفُ قائد الجيش التايواني السابق المشهد كالآتي: «أنت تقول إنها حديقتك، لكن يتّضح أن جاركَ هو الذي يقضي وقتهُ في الحديقة طوال الوقت. من خلال هذا الإجراء، هم يُدلون ببيان أنها حديقتهم، وهذه الحديقة هي على بُعد خطوةٍ واحدةٍ من منزلك».
بالنسبة إلى الأدميرال المتقاعد، «الوقت بالتأكيد ليس في صالح تايوان. إنها مسألة وقت بالنسبة إلى الصين لجمع ما يكفي من القوة».
«عقيدة النيْص»
تعمل تايوان بشكل مستمرّ على تعزيز قدراتها العسكرية، في مقابل التطوّر المتسارع في قدرات الجيش الصيني وقوّته النارية. وتعكس القفزة العالية في موازنة الدفاع التايوانية من 10.7 مليارات دولار في عام 2018، إلى 16.9 مليار دولار في العام الجاري، قناعةً لدى أصحاب القرار في تايبيه بأن المواجهة باتت أقرب من أيّ وقت مضى.
أنفق حكّام الجزيرة، بالفعل، مليارات الدولارات على شراء المقاتلات الجوّية والمروحيات الهجومية والفرقاطات والمدمّرات والغوّاصات والزوارق السريعة والألغام البحرية والمَدافع والدبّابات، وهم يواصلون تعزيز وتطوير منظومات الدفاع الجوّي (باتريوت)، ويستثمرون في برنامج الصواريخ الباليستية القادرة على إصابة البرّ الرئيسي.
لكن، رغم الاستمرار في الإنفاق على الأسلحة التقليدية الثقيلة والباهظة الثمن، يدرك الجيش التايواني أنه لن يكون نِدّاً للجيش الصيني في الحجم والقدرات (مليونا عسكريٍ صيني في الخدمة الفعلية مقابل 170 ألف عسكريٍ تايواني)، ولذلك اعتنق الأوّل، عندما كان تحت قيادة الأدميرال لي هسي مينغ، «عقيدة النيْص»؛ والنيْص هو من القوارض الكبيرة، التي تحمي نفسها بالأشواك الحادّة المزروعة على جسدها.
تقوم هذه العقيدة القتالية على مبدأ الحرب غير المتكافئة، وقد سمّاها مينغ «مفهوم الدفاع الشامل». بشكل مُبسّط، على تايوان تحويل نفسها إلى نيْصٍ أمام أيّ هجوم صيني، أي أنها، كما هذا القارض، ليست بحاجة إلى أن تكون أكبر حجماً وأقوى من «مُفترسها»، بل يكفي أن تُشعره بألمٍ يفوق قدرته على الاحتمال، حتى تدفعه بعيداً منها.
وعليه، بدلاً من شراء الأسلحة الثقيلة التي يَصعب إخفاؤها وستكون في مرمى الضربة الصينية الأولى، سيكون على الجيش التايواني، وفقاً لـ«عقيدة النيْص»، التركيز على الأسلحة التي تمنح العسكري مرونةً في الحركة والقتال، وتكون قابلةً للإخفاء في الجزيرة – التي تتوافق تضاريسها مع ما تتطلّبه عقيدة الحرب غير المتكافئة – كمضادّات الدروع (جافلين)، وأسلحة الدفاع الجوّي المحمولة على الكتف (ستينغر).
ومن هنا، فإن استمرار تايبيه في التركيز على اقتناء الأسلحة الثقيلة، يطرح علامات استفهام حول مدى التزام الجيش التايواني بتلك العقيدة، التي تهدف إلى استنزاف الجيش الصيني، ومنعه من الإطباق على الجزيرة، وإحكام سيطرته عليها.
وتمتدّ تايوان على 36,197 كلم مربعا (يعيش فيها 23.5 مليون نسمة)، وترتفع فوق ثُلثَيها سلاسل جبلية – من بينها الأعلى في شرق آسيا -، تتركّز في شرق الجزيرة ووسطها، وتنحدر إلى تلالٍ ومن ثمّ سهولٍ في غربها، فيما تغطّي الغابات ما يزيد عن نصف مساحتها.
تُمثّل العوائق الطبيعية التي تُغطّي تايوان، تحدّياً جدّياً للقوات الصينية، تحديداً مع استغلال الأولى تلك التضاريس الصعبة في بناء المنشآت العسكرية وتحصينها، وحمايتها من مرمى النيران، خصوصاً أن تايبيه تدرك جيداً أن جميع قواعدها العسكرية ومنشآتها الحيوية والاستراتيجية ستكون عرضةً للضربة الصينية الأولى.
وتُعدُّ المقاتلات الجوّية في أعلى قائمة الأسلحة النوعية التي تملكها الجزيرة، ولذا، حُفرت لها أنفاق محصّنة في الجبال، وجرى تدريب الطيّارين على الإقلاع بها من على الطّرق السريعة، لضمان عدم تحييد سلاح الجوّ عن المعركة، بمجرّد ضرب القواعد الجوّية واستهداف مُدرّجاتها.
جميع الخيارات على الطاولة
على طاولة القرار في بكين، خيارات عسكرية عديدة لمضاعفة الضغط على تايبيه، قد تُغنيها عن الهجوم الشامل، وتُجبِر الأخيرة على القبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، علماً أن مجرّد البدء بتفعيل تلك الخيارات قد يدفع تلقائياً إلى مواجهة واسعة بين الجانبَين، لا شيء يضمن بقاءها محصورةً في المضيق التايواني.
قد يبدأ الضغط العسكري الصيني بالسيطرة على ماتسو، وهي سلسلة جُزر صغيرة في الشمال الغربي لتايوان، يسكنها 13,500 نسمة، وتَبعد عن البرّ الرئيسي 9 كلم فقط؛ وكذلك، كينمن، وهي مجموعة جُزر في غرب تايوان، يسكنها 140,000 نسمة، وتَبعد عن بر الصين 6 كلم فقط.
وقد يكون الخيار العسكري ما قبل الهجوم الشامل، إطباق الحصار على الجزيرة، عبر تطويقها بالسفن الحربية، وفرض حظرٍ جوّيٍ فوقها، وصولاً إلى قيام الغوّاصات بقطع كابلات الاتصالات، وعزلها كُلّياً عن العالم.
أمّا آخر الخيارات وأصعبها، فهو الهجوم الشامل بالقاذفات والمقاتلات والصواريخ، وإنزال مئات آلاف الجنود من البحر وعبر الجوّ، تحت الغطاء الناري، ومواجهة القوات التايوانية داخل الجزيرة، حتى استسلامها.
في المقابل، تُعوّل تايوان لردع الصين، على القوات الأميركية التي تَملأ قواعدها العسكرية المحيط الهادئ، من اليابان وكوريا الجنوبية، إلى جزيرة غوام والفيليبين، وحتى سنغافورة وأستراليا. وتتواجد أقرب القواعد الأميركية إلى تايوان في جُزر أوكيناوا اليابانية (تقع في الشمال الشرقي للجزيرة)، حيث ستأتي منها الاستجابة الأميركية الأولى في حال قرّرت واشنطن التدخُّل عسكرياً.
ويعني الاصطدام المباشر بين القوّتَين النوويتَين، الأميركية والصينية، اشتعال المنطقة برُمّتها، إذ لن يبقى حلفاء الولايات المتحدة في الهادئ، بعيدين عن تبادل النيران، والاشتباك في أعالي البحار.
* صهيب العتر كاتب صحفي لبناني
المصدر: الأخبار – بيروت
موضوعات تهمك: