المرحلة المقبلة من الحرب قد تشهد الأسوأ، بينما تدور المعارك حول محطة زابوريجيا النووية.
دخلت حرب أوكرانيا شهرها السابع ورغم علامات التعب البادية على الأطراف المنخرطة فيها لا تلوح في الأفق بوادر تسوية سياسية.
كل المواقف الصادرة عن الزعماء الغربيين تفترض أن الحرب ستستمر سنوات وليس أشهراً وروسيا بدورها تستعد أيضاً لحرب طويلة أيضا.
مسألة حدوث إحتكاك روسي أطلسي مباشر واردة في أي لحظة، مع تزايد المساعدات العسكرية الأميركية ومحاولات نقل الحرب إلى الداخل الروسي.
يتشكل على وقع الحرب واقع جيوسياسي دولي جديد سواء تسنى لروسيا نصر كامل أو تمكنت أوكرانيا من الصمود بدعم غربي واكتفى الكرملين بتحقيق إنجازات محدودة.
تشير التقديرات إلى أن أوكرانيا وروسيا وأوروبا قد تكون مهددة كلها بما هو أسوأ من كارثة تشرنوبل عام 1986، إذا حدث تسرب إشعاعي من محطة زابوريجيا بفعل الأعمال القتالية.
* * *
بقلم: سميح صعب
بعد مضي ستة أشهر على المعارك الروسية ـ الأوكرانية، يسيطر الجمود على خطوط القتال الممتدة مئات الأميال، ولم يحرز أي طرف مكاسب ميدانية يعتد بها في الأسابيع الأخيرة التي تلت وقوع كامل منطقة لوغانسك في أيدي القوات الروسية، وإنتقال الهجوم إلى منطقة دونيتسك في إقليم دونباس بشرق أوكرانيا.
وبات الوضع الآن يتلخص بتبادل كثيف للقصف المدفعي من المواقع الثابتة للجانبين. المسؤولون العسكريون الأميركيون يقولون إن الهجوم الروسي فقد زخمه بفضل ما يسمونه “براعة” الجنود الأوكرانيين في إستخدام الأسلحة الأميركية، ولا سيما راجمات “هيمارس” ومدافع “الهاوتزر”.
وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ردّ على الرواية الأميركية، عازياً “بطء” هجوم القوات الروسية إلى قرار بتجنب إحداث خسائر في صفوف المدنيين.
لكن قرار الرئيس فلاديمير بوتين برفع عديد الجنود الروس بواقع 137 ألفاً ليصل العدد الإجمالي للجيش الروسي إلى ما يفوق المليون جندي ينطوي على إقرار ضمني بصعوبات ميدانية لم تكن في الحسبان قبل 24 شباط/فبراير الماضي.
وفي المقابل، لم يحرز الهجوم الأوكراني المضاد على جبهة خاركيف في الشمال الشرقي وعلى جبهة خيرسون – زابوريجيا في الجنوب، سوى تقدماً محدوداً. التحول اللافت للإنتباه في المعركة من جهة القوات الأوكرانية كان في تمكن طائراتها المُسيّرة من شن هجمات عدة هذا الشهر على شبه جزيرة القرم، مستهدفة قواعد عسكرية وقيادة أسطول البحر الأسود الروسي. ترافق ذلك مع تكرار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي على نحوٍ يومي عزم كييف على تحرير القرم الذي ضمته روسيا عام 2014.
في العادة، يوحي جمود الجبهات بأن ثمة جهوداً في القنوات الخلفية إستعداداً لهدنة تمهد للدخول في حوار يفضي إلى تسوية سياسية للنزاع. وبإستثناء الجهود التي يبذلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أجل جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع زيلينسكي في تركيا، لا مؤشرات على أن ثمة فرصة للديبلوماسية كي تشق طريقها وسط ركام الحرب وأعمدة النيران.
وإذا كان لا بد من تفسير منطقي لجمود الجبهات، فإنه عائد بالدرجة الأولى إلى الإنهاك الذي يعانيه الجانبان، في وقت لا تزال السقوف السياسية عالية لكل من الكرملين من جهة وكييف ومن خلفها الغرب وأميركا تحديداً من جهة ثانية.
وكان بوتين يطمح إلى السيطرة على كامل الدونباس كحد أدنى قبل أن يبدأ الحديث في السياسة. أما زيلينسكي فيريد إنتصاراً معيناً في الميدان، كي لا يقول إنه قبل بالحوار من موقع الضعيف، فضلاً عن أن قرار الحوار على الأرجح لن يتخذ في كييف وحدها وإنما في واشنطن أيضاً. القراءة الأولية تقود إلى أن حرب أوكرانيا تحوّلت إلى حرب إستنزاف بالنسبة إلى الجانبين مع رهانين متضادين.
الرهان الأميركي هو على أن المساعدات العسكرية الأميركية التي وصلت في ستة أشهر إلى نحو عشرة مليارات دولار فضلاً عن المساعدات العسكرية الأوروبية، ستُمكن القوات الأوكرانية من الصمود، ريثما يبدأ تأثير العقوبات الإقتصادية الغربية الساحقة على موسكو، بحيث لا يعود الكرملين قادراً على تمويل آلته العسكرية، وتالياً الفشل في كسب الحرب و”إضعاف” روسيا إلى درجة تمنعها من تكرار شن هجمات مماثلة.
وإذا نجحت أميركا فعلاً في إستنزاف روسيا إلى هذا الحد، فإن النتيجة الجيوسياسية ستكون إحتفاظ الولايات المتحدة بالآحادية القطبية في المدى المنظور.
أما الرهان الروسي فهو على أن العقوبات الغربية قد أخفقت في إحداث الأثر المتوخى منها. وفي الوقت نفسه، بدأ التململ يسود بعض الدول الأوروبية من التأثير المعاكس للعقوبات، مع تعثر إيجاد بدائل لمصادر الطاقة الروسية.
والإلحاح الغربي، وتحديداً الأوروبي، على إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للقبول بتسوية تُعيد إحياء الإتفاق النووي مع طهران لعام 2015، يرمي في جزء كبير منه إلى إعادة إيران إلى أسواق الطاقة العالمية، كي يتوافر لأوروبا بديل من النفط والغاز الروسيين، ووقف إرتفاع الأسعار الذي يقود موجات تضخم تهدّد الإقتصاد الأوروبي بالركود.
وهذا هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ينبه الفرنسيين إلى “إنتهاء أيام الوفرة” التي عرفوها في العقود الأخيرة، وان يكونوا مستعدين لعصر “الأزمات الكبرى” التي تضرب أوروبا والعالم بفعل النزاع الأوكراني. حتى الآن، تمكنت روسيا من إتخاذ إجراءات حدّت من تأثير العقوبات الغربية وبات وضع الروبل أقوى مما كان عليه منذ سنوات.
وبحسب الارقام، فإن النمو الروسي تراجع بنسبة 4 في المئة في الأشهر الستة الأخيرة بفعل الحرب والعقوبات، بينما يتوقع أن يتراجع الإقتصاد الأوكراني بنسبة 45 في المئة، هذا على رغم أن إتفاق معاودة تصدير الحبوب الذي توسطت فيه تركيا والأمم المتحدة، قد حدّ بعض الشيء من الخسائر الأوكرانية.
ويُلخّص رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان قصة العقوبات الغربية على روسيا وأثرها العكسي بالقول: “إننا جميعاً (في الإتحاد الأوروبي) نجلس في سيارة وإطاراتها الأربعة مثقوبة”!
وبصرف النظر عن الأسباب التي أدت إلى تعطيل سلاح العقوبات الغربية، ومن بينها عدم إنضمام الصين والهند ودول الخليج إليها، فإن بوتين يخوض حملة إستنزاف مضادة للغرب من خلال الرهان على أن تردي الوضع الاقتصادي، سيؤدي إلى تفتت الوحدة الغربية ضد روسيا، وخاصة بالخريف والشتاء المقبلين، حيث سيكون الاختبار الحقيقي، للفطام الأوروبي عن الغاز والنفط الروسيين.
لا ريب في أن الأشهر الستة الأولى من الحرب، أظهرت أن نجاح روسيا في إحتواء العقوبات الغربية، كان أكبر بكثير من نجاحاتها العسكرية. وإدراكاً لهذا الواقع، يواصل بايدن ضخ المليارات من المساعدات العسكرية لكييف أملاً في أن تتمكن أوكرانيا من قلب المعادلات الميدانية والإنتقال إلى الهجوم.
وتدل الضربات الأوكرانية المتصاعدة ضد القرم، وكأنها رسالة أميركية غير مشفرة إلى إمكان نقل المعركة إلى الداخل الروسي.. ويصب في هذا الإتجاه إغتيال داريا دوغينا إبنة الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين الذي يوصف بأنه “عقل بوتين”، برغم نفي كييف أي علاقة لها بالحادث.
المرحلة المقبلة من الحرب قد تشهد الأسوأ، في وقت تدور المعارك حول محطة زابوريجيا النووية، وتشير التقديرات إلى أن أوكرانيا وروسيا وأوروبا قد تكون مهددة كلها بما هو أسوأ من كارثة تشرنوبل عام 1986، إذا حدث تسرب إشعاعي من المحطة بفعل الأعمال القتالية.
ويجب ألا يغيب عن الأذهان أن مسألة حدوث إحتكاك روسي – أطلسي مباشر واردة في أي لحظة، مع تزايد المساعدات العسكرية الأميركية ومحاولات نقل الحرب إلى الداخل الروسي. وكل المواقف الصادرة عن الزعماء الغربيين تفترض أن الحرب ستستمر سنوات وليس أشهراً. وبدورها روسيا تستعد أيضاً لحرب طويلة وتبني قراراتها العسكرية والسياسية على هذا الأساس.
وفي الحسابات الإستراتيجية، فإن ما خسرته روسيا في أوروبا هي في طريقها إلى تعويضه بتعزيز العلاقات مع الصين. ولا ينسى صانعو القرار في أميركا أن “الورقة الصينية” التي لعبها ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر في أوائل سبعينيات القرن الماضي هي التي مكّنت الولايات المتحدة من كسب الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفياتي.
اليوم، قرر بوتين أن يلعب “الورقة” الصينية في مواجهة الهيمنة الأميركية وكسر العالم آحادي القطب. بهذا المعنى تصير أميركا خاسراً إستراتيجياً بصرف النظر عمن سيكسب الحرب في أوكرانيا. هكذا يخلص مقال في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية.
* سميح صعب كاتب وصحافي لبناني
المصدر: 180 بوست
موضوعات تهمك: