جهود السلام في اليمن تفتقد عنصرا حيويا

الساعة 2519 ديسمبر 2018آخر تحديث :
لا أدري متى اختفت عبارة «أمّا بعد» من الكتابة العربية الحديثة. يعود استخدام هذه العبارة إلى خطباء العصر الجاهلي، وعلى رأسهم قس بن ساعدة، الذي قيل إنه كان أول من اتكأ على عصا وبدأ خطبه بعبارة «أمّا بعد». وقد احتلت هذه العبارة موقعاً خاصاً في تاريخ الكتابة العربية. كانت هذه العبارة تستخدم لفصل الخطاب، جاء في «لسان العرب»: «فإذا قلت (أمّا بعد) فإنك لا تضيفه إلى شيء ولكنك تجعله غاية نقيضاً لقبل»، وقد ورد عن سيبويه أن «أمّا بعد» تأتي في معنى «مهما يكن من أمر بعد»، أي أن العبارة تستخدم عندما يصل القائل إلى جوهر الموضوع. عندما كنت طالباً في المدرسة الثانوية سحرتني هذه العبارة التي ارتبطت في ذهني بخطبة قس بن ساعدة: «أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا سمعتم شيئاً فانتفعوا…» رأيت في هذه العبارة تلخيصاً مكثفاً لبلاغة الإيجاز التي هي عنوان البلاغة العربية. يقول المتكلّم «أمّا بعد» كي يزيح النافل عن القول ويصل إلى الجوهر، أي إلى اللب الذي اعتبره ابن المقفع مبتغى الكلام. غابت «أمّا بعد» عن أدبياتنا، اختفت من النثر والشعر داخل مبنى الحداثة التي أرادت القطع مع الماضي ومع لغته. وكان هذا جزءاً من ضرورات التغيير بحثاً عن كلمات ملائمة لحياتنا المعاصرة. غير أن ما فات دعاة الحداثة هو أن الكلمات والعبارات تحمل تاريخاً معقّداً لا يمكن القبض عليه بسهولة. فبعض الكلمات قد تختفي وبعضها الآخر قد يموت، لكن في المقابل هناك عبارات تعود إلى الحياة من جديد، نتيجة الحاجة إليها من جهة وعدم ولادة بديل لها من جهة أخرى. أمّا بعد، هي العبارة التي نحن في أمسّ الحاجة إليها الآن، فالعبارة عادت إلى ذهني وأنا أتابع تفاصيل أسبوع المقاومة في الضفة الغربية. شعرت وسط المناخ المقاوم الذي انفجر أن الفدائيين عادوا أو هم في طريقهم إلى العودة. وبدا لي أن أوان فصل الخطاب قد جاء، علينا أن نطوي صفحة أوسلو ونقول إنه بعد سنوات الذل التي أعقبت هزيمة الانتفاضة الثانية آن أوان الوصول إلى جوهر الموضوع، والموضوع له اسم واحد، هو المقاومة والصمود. الشهداء: أشرف نعالوة، وصالح البرغوثي، ومجد مطير، وحمدان العارضة، ومحمود نخلة، كتبوا «أمّا بعد» بدمائهم، وقالوا إن الصفحة القديمة يجب أن تُطوى. هذا المنعطف يأتي استكمالاً لانتفاضة السكاكين، وتتويجاً لشهادة المناضل باسل الأعرج الذي أعلن أن فلسطين وقضيتها هي اليوم أمام ضرورة تأسيس بداية جديدة. منعطف صنعته سياسة الاستيطان الكولونيالية في الضفة الغربية، والتي أخذت شرعيتها من قانون القومية من جهة، ومن الانبطاح العربي المشين أمام أمريكا وإسرائيل الذي تمارسه ممالك النفط ومشيخاته، من جهة ثانية. لكن ما فات أصحاب مشروع تصفية فلسطين وقضيتها هو أن فصل المقال لا يتم سوى على أرض فلسطين، وأن المقاومة بأشكالها المختلفة تمتلك الكلمة الأخيرة. المسألة هي أننا لا نستطيع أن نقول مع الفدائيين «أمّا بعد» طالما بقيت السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير في مربّع وهم السلام. لقد أصبحت القضية أكثر خطورة من خلاف على خيار سياسي، فالقمع الذي مارسه الأمن الفلسطيني في الخليل ونابلس، والتنسيق مع قتلة الفدائيين الذين استباحوا رام الله والبيرة ومخيمي الأمعري والجلزون، ليسا تعبيراً عن موقف سياسي، بل يعبران عما هو أشد ّخطورة ومدعاة للغضب والأسى في الآن نفسه. لماذا هذا التنسيق المخزي بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وآلة القمع الإسرائيلية؟ والحكاية لم تبدأ اليوم، بل بدأت مع دايتون وقرار السلطة بتصفية «كتائب شهداء الأقصى» ومطاردة الفدائيين وتأسيس نظام سياسي-اقتصادي نيوليبرالي وتابع، ثم تواصلت مع التنسيق الأمني والتواطؤ على انتفاضة السكاكين، وصولاً إلى اغتيال الشهيد باسل الأعرج على أيدي قوات الاحتلال، وتعرّض والده للضرب والإهانة على أيدي رجال الأمن الفلسطيني. وبعد كل هذا يحق لنا أن نسأل من تبقى من المناضلين والفدائيين في حركة فتح، ماذا أنتم فاعلون؟ هل يمكن، هكذا وببساطة، أن ترمى تضحيات عشرات ألوف الشهداء؟ هل يُعقل أن تبنى سلطة تتلقى الإهانات وتتعاون على قتل شباب المقاومة باسم منظمة التحرير التي أعاد الفدائيون صوغها منذ خمسين سنة؟ آن أوان «أمّا بعد»، وإذا كانت القيادة الحالية باتت عاجزة عن قولها، فهذا لا يعني أنها لن تقال، بل سيأتي من يقولها، وقد بدأت تباشير قدومه تلوح في الأفق، ولن ينتظركم. هذه العبارة صارت ضرورية كي نطوي صفحة الوهم والوهن. هذا لا يعني أن طي الصفحة سيكون سهلاً أو بسيطاً، إنه فصل جديد من مسيرة الألم والمعاناة والصمود. لكن فلسطين لم تنتظر يوماً، ولن تنتظر. فأمام قرار الضم الزاحف وتحويل الفلسطينيين إلى لا مواطنين، لا خيار سوى البقاء والمواجهة. والمواجهة تحتاج إلى لغتها الجديدة التي تتبلور اليوم في المعاناة والألم، لغة يصنعها الناس وهم يدافعون عن حقهم في الحياة، في مواجهة همجية نظام الاستيطان وجنون الفاشية التي باتت إسرائيل تشكل أحد مرتكزاتها في زمن الشعبوية وصعود العنصريات في العالم. لقد فشل الاستسلام الفلسطيني في الحصول على الحد الأدنى من الحقوق التي يحصل عليها المستسلمون في العادة، وما على المستسلمين سوى أن يزيحوا قبل أن يُزاحوا. فلسطين تواجه خطر الإبادة السياسية، وأمام خطر الإبادة لا خيار سوى المقاومة.
رويترز

جهود السلام في اليمن تفتقر إلى عنصر حيوي

عندما عقد الطرفان المتحاربان في اليمن اجتماعات في السويد الأسبوع الماضي، كانت آمال كبيرة معقودة على أن تطلق محادثات السلام هذه، وهي الأولى منذ 2016، عملية سياسية لإنهاء الصراع الذي ترك البلاد على شفا مجاعة وأوجد ما وصفته الأمم المتحدة بأنه ”جحيم مقيم لملايين الأطفال“.

وأعلن أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة في ختام المحادثات أن الطرفين اتفقا على عدد من الخطوات المشجعة والمهمة منها وقف إطلاق نار حيوي في مدينة الحديدة الساحلية التي تدخل عبرها أغلب المساعدات لليمن. لكن رغم أن قادة عملية السلام في اليمن يعتزمون استئناف المحادثات في يناير كانون الثاني، فإنهم يواصلون إغفال استراتيجية مهمة يمكن أن تعزز فرص السلام: إشراك المرأة.

وإتاحة الفرصة للنساء للجلوس إلى طاولة مفاوضات السلام ليس مجرد مسألة عدالة- بل حتمية استراتيجية. فالدراسات تشير إلى أن إشراك النساء في عملية سلام يقلص احتمالات فشل الاتفاق الذي ينتج عنها بنسبة 64 بالمئة ويعزز فرص سريان اتفاق السلام لمدة 15 سنة على الأقل بنسبة 35 بالمئة. وألهمت هذه البيانات الحكومة الأمريكية بالفعل لسن قانون عام 2017 لدعم المشاركة الفاعلة للنساء في مفاوضات السلام.

فقد أظهرت النساء، من جواتيمالا إلى أيرلندا الشمالية والفلبين، أن مشاركتهن في عمليات السلام حاسمة. لكن في اليمن لم يكن للنساء تمثيل يذكر، إن كان لهن أي تمثيل على الإطلاق، في العديد من جولات المحادثات منذ 2011 بما فيها المحادثات الأخيرة التي جرت خارج ستوكهولم الأسبوع الماضي.

وهذه ثغرة يتعين على الولايات المتحدة معالجتها في الوقت الذي يناقش فيه الكونجرس سحب الدعم للتحالف متعدد الجنسيات الذي تقوده السعودية والذي يقاتل في اليمن وكيفية تعزيز فرص إقرار السلام في اليمن. ومن أجل تحقيق النقطة الأخيرة ينبغي للنواب الدعوة لمشاركة المرأة في المفاوضات وفي جهود إنعاش البلاد التي تستتبع ذلك.

ورغم الأدلة العديدة التي تظهر أهمية مشاركة النساء في محادثات السلام، أظهر تقرير لمجلس العلاقات الخارجية عن مشاركة المرأة في عمليات السلام من 1990 حتى الآن أن النساء مثلن نسبة اثنين بالمئة فقط من الوسطاء وخمسة بالمئة من الشهود والموقعين وثمانية بالمئة من المفاوضين على مستوى العالم. وأمام المفاوضين في عملية السلام اليمنية فرصة لتحسين هذه الأرقام الهزيلة.

وقد يزعم البعض أن الضغوط الدبلوماسية لإفساح المجال أمام النساء على مائدة المفاوضات ستعتبر تدخلا أجنبيا غير مرغوب فيه. لكن في الواقع أيد الشعب اليمني إشراك النساء في سياقات مشابهة، فالتزم في عام 2013 بحصة 30 بالمئة للنساء في الوفود السياسية. وقبل بدء الصراع في اليمن عام 2015 كانت حقوق المرأة في صعود: فبعد عقود من القمع كانت اليمنيات من مختلف الخلفيات في قلب احتجاجات عام 2011 السلمية التي أطاحت في نهاية الأمر بالرئيس علي عبد الله صالح من السلطة. حصلت واحدة من أبرز القيادات – توكل كرمان التي لقبت بأم الثورة – على جائزة نوبل للسلام لالتزامها بمسعى سلمي للدفاع عن حقوق الإنسان.

لكن منذ أن سيطر الحوثيون من شمال اليمن على صنعاء وأطلق التحالف متعدد الجنسيات الذي تقوده السعودية حملته المضادة تعرضت حقوق المرأة للهجوم مرة أخرى. وخلال الأشهر الخمسة الأولى من الحرب زادت الحالات الموثقة للعنف على أساس النوع الاجتماعي، ومنها الاغتصاب، بنسبة 70 بالمئة. وارتفعت معدلات تزويج القاصرات أيضا، واليوم تتزوج اثنتان من كل ثلاث فتيات يمنيات قبل أن تبلغن سن 18 عاما. ويمثل الأطفال والنساء نسبة 75 بالمئة من بين مليوني شخص نزحوا من ديارهم وأجبرتهم الحرب على إعالة أسرهم دون تدريب يذكر وفرص عمل محدودة.

ورغم هذه المصاعب، تغلبت نساء اليمن على التهميش السياسي وأسهمن في جهود السلام على الأرض. وإدراج اليمنيات في المفاوضات لإنهاء الحرب في بلادهن يمكن أن يعكس الإسهام الذي يقدمنه بالفعل، من تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى المساعدة في إطلاق سراح المعتقلين وقيادة إعادة دمج الأطفال المقاتلين.

وفيما يلي ثلاث طرق تمكنت النساء من خلالها من إحداث فرق:
أولا، أنهن يعملن متجاوزات الانقسامات. فاليمنيات من مختلف الخلفيات شكلن تحالفات جديدة، منها التوافق النسوي اليمني للسلام والأمن وشبكة التضامن النسوي. وبالعمل عبر الخطوط السياسية تمكنت النساء من تفعيل لجان هدنة محلية لمنع النزاعات على موارد المياه والأرض، وخاطرن بحياتهن لإنقاذ أسر حاصرها الصراع وأخلين مدارس كانت تسيطر عليها جماعات مسلحة.

وثانيا، إن نساء اليمن يساهمن في الأمن المحلي. فقد أسهمت مئات من المبادرات التي قادتها نساء لتوفير التعليم والغذاء لمجتمعاتهن في تعزيز الأمن المحلي. وعملن على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق وجدت قوافل المساعدات صعوبات في الوصول إليها، ودعمن برامج إعادة إدماج المقاتلين الأطفال (مما سد ثغرة خلفتها جهود الأمم المتحدة ذاتها) وقدن جهودا -في مواجهة الانتهاكات المستمرة- لإطلاق سراح أكثر من 300 معتقل ورصدن التفجيرات ونقص الأدوية.

وثالثا، فإنهن يغرسن بذور التعافي من آثار الحرب. فقد دعت النساء إلى أن تعالج عملية السلام قضايا من شأنها تحسين استمرارية اتفاقات السلام، بما في ذلك تأسيس صندوق دولي لإعادة الإعمار، والاستثمار في فرص مدرة للدخل، وإحياء النظام القضائي. كما دفعت النساء باتجاه نزع السلاح، وتسريح المقاتلين، وبرامج الإدماج استجابة لاحتياجات النساء والمقاتلين الأطفال، وطالبن بإدراج المزيد من النساء في القطاع الأمني- وكلها إجراءات ثبت أنها تعزز التعافي والاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب.

إن إفساح مكان للنساء على طاولة مفاوضات السلام ليس فقط هو الأمر الصواب الذي يتعين عمله – بل هو الاختيار الذكي.

 

المصدر: رويترز

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة