بقلم: ماجد كيالي
بعد عامين على اندلاع الثورة السورية، ومعها مئات ألوف الضحايا من الشهداء والجرحى والمعاقين، والمختفين والمعتقلين والملاحقين، والمبعدين والنازحين واللاجئين، فضلا عن خسائر تقدّر بعشرات بلايين الدولارات في الممتلكات الشخصية والعامة وفي البني التحتية، والخسائر التي لا تقدر في معنى الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي والصحة النفسية؛ بعد كل ذلك، يبدو أن ثمة مسارا طويلا لابد لهذه الثورة من أن تقطعه حتى تصل إلى هدفها المؤسّس وهو إسقاط النظام.
لا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل إن هذه الثورة -بعد مضي عامين على اندلاعها- باتت في مواجهة صعوبات ومشكلات وتحديات جمّة، تؤثّر على فاعليتها وصورتها، عند شعبها وفي الخارج، وتثقل إمكانات قدرتها على إنجاز هدفها.
مثلا، فإن هذه الثورة -على الصعيد المجتمعي- لم تستطع أن تستقطب مجمل مكونات المجتمع السوري إلى فعالياتها الشعبية والسلمية، من تلك التي ما زالت تعتبر نفسها -عن وعي معين (ولو عن غير حق)- على الحياد، رغم كل القتل والتدمير الجاري في البلد.
وفي هذا الإطار، قد يكون من السهل تحميل هذه الجماعة أو تلك مسؤولية ذلك الموقف، وقد يستمرئ كثيرون توصيف ذلك بتعبيرات هوياتية، طائفية أو مذهبية أو إثنية، لكن هذا وذاك لا يحلان شيئاً، فضلاً عن أنه لا جدوى منهما.
فعلى رغم كل شيء، فإن القوى الفاعلة في الثورة تتحمّل قسطاً من المسؤولية عن هذا الوضع، بواقع تلوّن خطاباتها، وتخبّط أشكال عملها، وضمن ذلك مثلاً تسمية أيام الجمع، والكتائب العسكرية، وتضمين بياناتها معاني تنطوي على شبهة احتكار التقرير في ماهية مستقبل سوريا، مع رفع بعضها للرايات السود بدلاً من علم الثورة السورية، فهذه كلها شوّشت على هوية هذه الثورة كثورة وطنية، وعلى مقاصدها بشأن اعتبار سورية وطناً لكل السوريين.
هذه الحال لم تسهّل عملية الاستقطاب لمصلحة الثورة، علماً بأن هذا الأمر لا يتعلق بجماعات طائفية أو مذهبية أو إثنية بذاتها، إذ إنه يشمل أيضاً قطاعات لا بأس بها من المجتمع الإسلامي “السني” المديني، الذي لم ينخرط في الثورة إلى الدرجة المناسبة، لا سيما في مدينتيْ دمشق وحلب، وهذا ينطبق على أحياء كاملة في قلب هاتين المدينتين، بدليل أن قطاعات الدولة ذاتها ما زالت تشتغل.
وهذا يعني أن الثورة معنية ببذل الكثير من أجل استقطاب مجمل الجماعات السورية إلى معمعانها، لا العمل على عكس ذلك، كمثل تركيز الحديث على إنشاء دولة دينية أو مذهبية، مما يثير مخاوف الجماعات الأخرى، ويوحي بإقصائها من نطاق الشعب السوري، فضلاً عن أنه يثير القلق لدى أهل الجماعة “السنية” نفسها، التي اعتادت على الوسطية والاعتدال، والتي لم يترسّخ في وعيها أنها تشكّل جماعة طائفية أو مذهبية مستقلة في ذاتها.
أيضاً، فإن معضلة الثورة السورية تكمن في غياب القيادة عنها، وفي أن القوى المحركة لها لا تعمل في إطار من التوافق والترابط والتكامل. فالائتلاف الوطني -كقيادة سياسية مثلاً- ما زال لم يتمكن من العمل على هذا النحو، لا بشأن الحراك الشعبي (التنسيقيات والهيئات واللجان المحلية)، ولا بشأن الجماعات التي يتشكّل منها “الجيش الحر”.
وبدوره، فإن “الجيش الحر” لا يعمل كجيش لافتقاره إلى الهيكلية وهيئة الأركان، ولخضوعه لمرجعيات متعددة تبعاً للأطراف المشكلة له، أو للأطراف التي تدعمه من الناحيتين المادية والتسليحية. أما الحراك الشعبي -وهو القوة التي أطلقت الثورة السورية ومنحتها شرعيتها- فبات في وضع صعب جداً، لا سيما بعد أن صار يفتقد كوادره التي تمت تصفيتها، إما بالقتل أو بالاعتقال أو بالاختفاء أو بالخروج من البلد.
طبعاً، لا بد من تفهّم الصعوبات والتعقيدات التي تواجهها هذه الثورة المستحيلة، لكن ثمة مسؤولية تقع على عاتق القيادات السياسية والعسكرية والشعبية، التي لم تستطع بعد عامين الارتقاء بالصيغ التنظيمية لعملها، بسبب بعض الحساسيات الشخصية، وبعض الحسابات السياسية الضيقة.
وعلى الصعيد العسكري فإن الوضع ليس أفضل حالاً، إذ باتت ثمة قوى تعتبر نفسها خارج إطار “الجيش الحر”. وهذا لا ينطبق فقط على التشكيلات العسكرية التابعة لـ”جبهة النصرة” وأخواتها، وإنما بات يشمل تشكيلات كل من “الجبهة الإسلامية السورية”، و”جبهة تحرير سوريا الإسلامية”.
واللافت أن دور “الجيش الحر” آخذ في التضاؤل، بينما تصعد هذه التشكيلات والجبهات التي تعتبر نفسها مستقلة عنه وعن الائتلاف، ناهيك عن خطاباتها التي تدّعي احتكار التقرير في مستقبل سوريا، من مدخل القوة العسكرية!
ظاهرة أخرى باتت تعاني منها الثورة السورية، وهي ظاهرة العسكرة، وهذه ليست لها علاقة بمقاومة النظام بالسلاح، بقدر ما لها علاقة بسيادة المكوّن العسكري على المكوّن السياسي، وطغيان الطابع العسكري على الطابع الشعبي، وسيادة لغة العنف أو التهديد بالعنف في التعامل مع البيئات المجتمعية.
طبعاً، ثمة ظواهر سلبية تنشأ عن ذلك، مثل الخطف، وطلب الخوات، ونهب الممتلكات، وقد تمكن إحالتها للشبيحة الذين اخترقوا بعض جماعات “الجيش الحر”، والخارجين عن القانون الذين باتوا يستغلون الفراغ، لكن ثمة حالات ثبتت على بعض منتسبي “الجيش الحر”، من ضعاف النفوس الذين استغلوا مكانتهم للقيام بأعمال كهذه، وهي أمور ينبغي وضع حد لها.
لا تنبع المشكلة من هذه الوضعية فقط، فثمة أيضاً مزاجية في عمل بعض التشكيلات العسكرية، وفي غياب خطة موحدة، وفي التبعات المكلفة التي تنجم عن عمل بعضها في المناطق التي توجد فيها. وواضح أن الأمر لا يتوقف عند تنظيم “الجيش الحر”، وإعادة هيكلته وتصويب عمله، فهو يفترض أيضاً إيجاد مرجعية سياسية له وحصر مجاله في العمل العسكري، لضمان عدم تغوّل العسكري على السياسي، وبالتالي على المجتمعي في الثورة السورية.
ويأتي في هذا الإطار عدم مراعاة الحساسيات والحسابات في بعض البيئات المحلية، كمثل الدخول في معركة رأس العين (سري كانية)، أو السيطرة على مخيم اليرموك من دون دراسة لعواقب ذلك، ومن دون الارتباط بخطّة عامة، أو اعتماد تفجير السيارات وسط مناطق مدنيّة (كما حصل في السلمية)، أو السكوت عن بعض التجاوزات المسلكية والأخلاقية.
عموماً، هذا نقاش يتعامل مع وجود المكون العسكري، من دون صلة بالجدل المتعلق بالمفاضلة بين السلمية والعسكرة. ومع التقدير لكل التضحيات، ولدور المكون العسكري في كسر هيبة النظام واستنزافه، فإن العسكرة ينجم عنها أيضا ارتهان لمصادر التمويل والتسليح، وضمور في البعد الشعبي للثورة، وفوق ذلك فإنها تخلق تظلمات كثيرة في المجتمع، وتعزز المخاوف على المستقبل، لاسيما على مستقبل الإجماعات الوطنية، وكلها أمور لا ينبغي تركها للصدف، وبالتأكيد فللحديث بقيّة.
أما على الصعيد السياسي، فيبدو أن ثمة مشكلة في كيفية استثمار هذه الثورة لأوراقها، وللتضحيات التي بذلتها، كما أن ثمة مشكلة في كيفية قراءة الثورة للواقع والتعقيدات المحيطة بها. وما ينبغي التأكيد عليه هنا هو هذا النظام الساقط الذي لم تعد له أي قدرة على الاستمرار. فسوريا تغيرت، وليس بالإمكان إرجاع عجلة التاريخ إلى الخلف، وهذا أمر مفروغ منه.
ومع ذلك، فما يجب الانتباه إليه -في غضون الأحداث- هو أن الثورة السورية كأي ثورة قد تضطر -في إطار صراعها من أجل تحقيق هدفها بإسقاط النظام- إلى خوض تسويات معينة، في سبيل تقليل التكاليف والمخاطر، لا سيما إذا كانت قواها ليست على الدرجة التي تمكّنها من تحقيق الغلبة بتكاليف معقولة ومحمولة.
لكن من البديه أن ذلك لا يفترض التراجع عن المضي في تحقيق هدف إسقاط النظام، وإنما يعني التعامل مع هذا الوضع المعقد بعقلية سياسية، لا بعقلية أيديولوجية تطهرية وشعاراتية، فالصراع لا بد من أن يفضي إلى حلول سياسية، وبقدر ما أن مهمة القيادة المسؤولة التأكد من أن هذه الحلول لا تعوق إنجاز الهدف المتوخّى، بل تشكّل طريقاً محتوماً إليه، فإن مهمتها أيضا ألا تجد نفسها فجأة في واقع يفرض عليها القبول بأي شيء.
وهذا يفيد بأن الثورة السورية أحوج ما تكون إلى طرح مبادرة سياسية، أو “خريطة طريق” للمرحلة الانتقالية لتوضيح ذاتها إزاء الأطراف المكونة لها، وإزاء مجتمعها بمختلف أطيافه وتلاوينه، وإزاء العالم الذي تنشد دعمه، هذا من دون صلة بضغوط دولية أو عربية، فهذا له علاقة بالثورة ومصالحها وطريقة إدارتها لأحوالها.
القصد أن الثورة السورية معنية بأخذ زمام المبادرة، بطرح “خطة الطريق” الخاصة بها للمرحلة الانتقالية، وملاقاة أي تصور سياسي يتأسّس على الانتهاء من النظام، وربما أن هذه الثورة معنية فوق ذلك بالمبادرة إلى تشكيل حكومة انتقالية مؤقتة، تكون أكثر تمثيلاً لمجمل مكونات الشعب السوري.
والمعنى أن هاتين المبادرتين (الخطة والحكومة) باتتا بمثابة ضرورة لترشيد إدارة الثورة لأحوالها ولمجتمعها، بعد عامين تقريباً على انطلاقها، ومع وجود مناطق محررة واسعة تحتاج إلى مجالس محلية، فالدول تدار بالحكومات وليس بالائتلافات السياسية، والحكومات تعترف بحكومات لا بجماعات سياسية أو عسكرية.
أخيرا وفي شأن الوضع الدولي، فمن الواضح أن الثورة بحاجة ماسة لمساعدات خارجية في التسهيلات اللوجستية والسلاح والدعم المالي، لكن الدول لا تشتغل كجمعيات خيرية ولا بعقلية مبدئية أو أيديولوجية، ولا بالعواطف، وإنما تشتغل بعقليات براغماتية وسياسية ومصلحية، وبديهي أن أي دعم يقدم للثورة إنما يبتغي إخضاعها لارتهانات وتوظيفات وتوجيهات معينة، مما يفرض على الثورة تنظيم تصريفها لطاقتها، وتعزيز الاعتماد على مواردها، والموازنة بين حاجاتها ومبادئها، وبين إمكانياتها وأشكال عملها.
وعلى ذلك، فثمة مشكلات وتعقيدات كبيرة لهذه الثورة التي كلما استمرت ازدادت مشكلاتها، وهذا طبيعي ويمكن تفهمه، وخصوصاً أن سوريا بلد مفتاحي يؤثر في جواره، وما بعد جواره، لاسيما أن هنا إسرائيل أيضاً، التي يحرص الغرب على ضمان أمنها.
المهم أن ثمة كلاما كثيرا يمكن قوله بشأن التحديات والمشكلات التي تواجه ثورة السوريين، ناهيك عن كلفتها الباهظة، لكن مع كل ذلك يمكن القول إنه -بالمقارنة مع ثورات “الربيع العربي”- إذا كان ثمة مائة سبب للثورة في ليبيا ومصر وتونس واليمن، فثمة ألف سبب للثورة في سوريا، لذلك قام السوريون بثورتهم، وفعلوها على طريقتهم، ووفق معرفتهم وإمكاناتهم، مدفوعين إلى ذلك بتوقهم إلى الحرية والكرامة.
هكذا باتت الثورة السورية المستحيلة الثورة الأكثر صعوبة وتعقيدا وكلفة بين ثورات الربيع العربي، ومع ذلك فهذه هي الثورة الأكثر شرعية، والأكثر شجاعة وتصميما..، ولذلك فهذه الثورة وجدت لتنتصر.