يجيب كتاب إدوارد سعيد عن سؤال حضاري قديم: ماذا كان دور الثقافة في نشأة الإمبريالية والاستعمار منذ القرن التاسع عشر؟
ماذا كان دور الثقافة في مقاومة الإمبريالية والاستعمار إبان معارك التحرير من المغرب العربي إلى المشرق العربي إلى الهند إلى فيتنام إلى أفريقيا السوداء؟
لجأ المثقفون المغاربيون لمجدهم الإسلامي ليستمدوا منه الروح لمقاومة الاستعمار الإمبريالي الدخيل فمهّد الجهاد الثقافي للجهاد بالسلاح من اجل التحرير.
يقرأ الكتاب أحداث العولمة الطاغية ليفتح عيون العرب على حقائق الهيمنة الثقافية الجديدة المتخفية ببرقع الشعارات حتى يسهل الاستحواذ على ثرواتنا ومصائرنا.
* * *
بقلم: أحمد القديدي
في خريف باريس الدافئ وتحت المطر الغزير والرعد والبرق وقبيل استفحال (أوميكرون) كان لقائي منذ شهرين بآخر عمل فكري للأستاذ الفلسطيني الأمريكي (طيب الله ذكره وثراه) إدوارد سعيد مترجماً للغة الفرنسية تحت عنوان: (الثقافة والإمبريالية) إصدار مؤسسة «فايار» للنشر بالاشتراك مع أكبر صحيفة باريسية «لوموند».
وهو كتاب أصبح من المراجع الكلاسيكية في دراسة الاستشراق والاستعمار، ويأتي هذا العمل ليجيب عن سؤال حضاري محير وقديم هو: ماذا كان دور الثقافة في نشأة الإمبريالية والاستعمار منذ القرن التاسع عشر؟ وماذا كان دور الثقافة كذلك في مقاومة تلك الإمبريالية وذلك الاستعمار إبان معارك التحرير من المغرب العربي إلى المشرق العربي إلى الهند إلى فيتنام إلى أفريقيا السوداء؟
وهذا السؤال العام سبق أن طرحه جامعيون ومثقفون متميزون من كل أنحاء المعمورة وأجابوا عنه أو حاولوا الإجابة عنه لكن بصورة منفردة ومتفرقة لم تعط هذا الموضوع ما يستحقه من درس وتمحيص وتعمق بل لم يخصص له أحدهم كتاباً ثقيلاً من حجم كتاب إدوارد سعيد.
والسبب هو أن المؤرخين في جملتهم أولئك الذين ارّخوا لاستقرار الإمبراطوريات كانوا مؤرخين بالمعنى التقليدي اي القائمين بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي لحركات التاريخ وتحولاته الكبرى أي ناقلي أحداث دون العناية بالعامل الثقافي شديد الأهمية، لأن الثقافات هي ضمائر الأمم وذاكرتهم وصانعة المخيلة الجماعية ورد الفعل الشعبي.
فالثقافة فعل ميداني وهي تؤدي وظائفها بأدواتها المعروفة الظاهرة مثل الأدب والفن والتعليم وبأدواتها الخفية الباطنة مثل الفلسفة والتاريخ والدعاية والإعلام والتراث الشعبي. ولذلك يقول إدوارد سعيد بأن الإمبريالية استقرت بأدوات الثقافة واهتزت أركانها بنفس أدوات الثقافة المقاومة.
وهو صراع بين الأمم الغالبة والأمم المغلوبة بمفهوم العلامة عبدالرحمن بن خلدون، فالأمم الغالبة التي أباحت لنفسها حق احتلال أمم مغلوبة وقهرها وإذلالها استعملت الثقافة الإمبريالية إما لتبرير طغيانها أو لتمرير مخططاتها، أما الأمم المغلوبة فلم يأت تحريرها الا بأداة الثقافة التي زرعت الوعي وأيقظت الحس الوطني والديني لرفض الاستعمار والمطالبة بالاستقلال.
وتجب الملاحظة بأن هذا الكتاب يعتبره صاحبه إدوارد سعيد تكملة طبيعية لكتابه «الاستشراق» الذي لقي صدى واسعا في المحافل الجامعية والفكرية نظراً للتحليل الموضوعي والموسوعي الذي قام به الاستاذ سعيد لرصد ظاهرة الاستشراق، لا من حيث هي مجهود علمي بل من حيث هي تمهيد بوعي أو بلا وعي لاستقرار الإمبريالية التي هي بمعناها اللغوي بسط النفوذ الاجنبي ـ عرقياً واقتصادياً وسياسياً وعسكريا.. ثم ثقافياً ـ من قبل أمة على أمة تحت دعاوى «التمدين» أو الوحدة أو الالحاق أو اليوم بحجة العولمة!
وهنا يضرب إدوارد سعيد أمثلة ساطعة ناطقة مثل المثال الهندي فالمملكة البريطانية فرضت إمبراطوريتها ـ وبالطبع إمبرياليتها ـ على الهند التي كان عدد سكانها ثلاثمائة مليون نسمة، بجيش بريطاني قوامه ستون ألف جندي يؤطرهم اربعة آلاف موظف ويصاحبهم تسعون الف مواطن مدني بريطاني.
وهذه الحقيقة الغريبة يتفهمها كاتب روائي بريطاني هو (كونراد) ويبررها في رواية «طريق الهند» أو رواية «كيم» كواقع طبيعي.. لا مبرر له في الواقع إلا بفكرة ضرورة بسط الإمبراطورية البريطانية كأمر عادي.. بل لا مفر منه، والروائي الشهير كونراد لا تبدو عليه علامات العجب أو الاعتذار للشعب الهندي الرافض لهذا المد الإمبريالي، بل إن رواياته تتناسى قضية «هامشية» اسمها الشعب الهندي!!!
ويحلل إدوارد سعيد كذلك الظاهرة الشعرية لشاعر بريطانيا (ت. س اليوت) حيث يتوارى الواقع الامبريالي خلف اجواء وفضاءات خيالية جمالية فنية لا مجال فيها لتحليل القهر اليومي المسلط على شعوب الجنوب من قبل الاحتلال البريطاني ونفس الشيء بالنسبة للاستعمار الفرنسي للجزائر تحديداً ولكل المغرب العربي منذ 1830.
فقد مر ادباء ومثقفون فرنسيون كبار مرور الكرام على عمليات الابادة الجماعية والتعذيب كأنما أدبهم الروائي والشعري لا يتسع لاحتواء نكبة هذه الشعوب المسلمة المغلوبة على امرها، اذا ما استثنينا موقف الفيلسوف الوجودي (جون بول سارتر) ضد التعذيب في الجزائر.. لا ضد احتلال الجزائر.. واضعف منه موقف الكاتب الفرنسي المولود بالجزائر والحائز على جائزة نوبل (ألبير كامو).
وتأتي ثقافة المقاومة الجزائرية والمغاربية لدى (فرانز فانون) ومالك بن نبي وأبو القاسم الشابي والشيخ بن باديس والشيخ الثعالبي والشيخ البشير الإبراهيمي ومفدي زكريا والشاذلي عطاء الله وغير هؤلاء كثيرون ممن يعود لهم الفضل الثقافي في احياء جذوة الكفاح والمقاومة التي تمهد الطريق للمجاهدين بالسلاح وبالسياسة للانتصار على الإمبريالية.
ويستشهد ادوارد سعيد بخطاب (رينولدز) الذي يقول: «ان الفن والعلم يشكلان اسس الإمبراطورية حاولوا نزعهما عن جوهر الإمبراطورية لن يبقى منها شيء يذكر، لأن الامبراطورية هي التي تتبع الثقافة وليس العكس.
ويقارن سعيد بين ثقافة المقاومة في الهند ومثيلتها في المغرب العربي الأولى ضد الإمبراطورية البريطانية والثانية ضد الإمبراطورية الفرنسية، ويجد فيهما نسقاً واحداً من الهيمنة بالفن والفكر والتعليم باستضعاف الشعوب المولّى عليها.
كما وقع عام 1876 حين اعلنت الملكة فكتوريا نفسها ملكة على الهند، وذهب نائب الملكة (لورد لايتن) إلى دلهي الجديدة لتكريسه حاكماً عليها كأنما ذلك أمر طبيعي في مهرجانات «شعبية هندية» لتأكيد الطابع الثقافي التراثي للإمبراطورية بينما الأمر يتعلق بثقافتين مختلفتين تماماً بل متضادتين لا علاقة بينهما إلا من منطق القوة والقهر.
وهذا يفسر لماذا لجأ المثقفون المغاربيون إلى ماضيهم ومجدهم الاسلامي ليستوحوا منه المدد والروح لمقاومة الاستعمار الامبريالي الدخيل. فكان الجهاد الثقافي توطئة وتمهيداً للجهاد بالسلاح من اجل التحرير.
ويقرأ الكتاب بعد ذلك احداث العولمة الطاغية من هذا المنظور ليفتح عيوننا ـ نحن العرب ـ على حقائق الهيمنة الثقافية الجديدة المتخفية ببرقع الشعارات حتى يسهل الاستحواذ على ثرواتنا ومصائرنا. ولذلك أرجو أن تتولى إحدى دولنا تعريب هذا الكتاب لأهميته.
* د. أحمد القديدي كاتب وأكاديمي تونسي
المصدر| الشرق – الدوحة
موضوعات تهمك: