توتر الروح المصرية بين الحق والواجب والرومانسية
قراءة في رواية بطن البير
للكاتبتين :أميرة شاهين وأميمة السيد
بقلم المستشار : صالح شرف الدين
هزت ثورة 25 يناير 2011م الجميع ،ولم نشاهد الثورة فيديو ،ولا سمعنا عنها في نشرات الأخبار ،ولم نقرأ عنها ما نشر في صفحات الكتب أو الصحف ،ذلك لأننا كنا في قلب الثورة ، تلبية لنداء الجيش انزلوا احموا بيوتكم ،نزلنا وواجهنا البلطجية وجها لوجه ، ولم يحققوا أهدافهم ،تابعنا الأحداث عن كثب ، ورأينا في التحرير وحوله ما يحدث من أعمال عنف لا تمت للثورة السلمية بصلة ، ثم محاولات ممنهجة لشيطنة الثورة والثوار ،وركوب موجاتها ، وكأن أسوأ ما حدث هو عمليات القتل وممارسة العنف على العام لإرهاب الثائرين ،وعمليات التحرش الممنهجة بالنساء ، أما الأكثر سوءا هو تهديد من يثور بالسحق من فصيل عانى كثيرا من العنف وكان يجب ألا يصرح به ،ولا يتخذه منهجا ، فذلك يدل على الجهل بطبيعة المصريين ،ألب ذلك الجميع ،وخرج الملايين يرفضون التهديد ، فنجحت إحدى توابع ثورة 2011م ، وكما أسقطت الموجة الأولى رأس النظام ،وأسقطت الدستور ،فقد أسقطت الموجة الثانية رأس النظام ،وأسقطت الدستور ،واعترف الدستور الجديد بالموجتين ،فمن قاموا بهما مصريون ،واعتبرهما ثورة واحدة شريفة يقول الدستور في مقدمته :”..وثورة 25 يناير ،30 يونيو فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بعشرات الملايين ،وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق ،وبتجاوز الجماهير للطبقات والأيديولوجيات نحو آفاق وطنية وإنسانية أكثر رحابة …”
،ورغم موجات العنف المتتالية إلا أنها لا تجد أي تأييد شعبي بسبب فقدان المصداقية ممن ينفذون أعمال العنف ،ومن المنظرين لها ،وتماسك أجهزة الدولة في الذود عن الحدود ،واستعادة السيطرة على البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لأول مرة منذ عشرات السنين ، وحسنا فعلت الدولة أن اعتبرت كل من قتل في شهور الثورة شهداء ،ومنحتهم إمتيازات الشهيد هم وأسرهم لتغلق ملف الثأر لهم ،
وأكد على عظمة الثورة أن أدين رأس الدولة الذي ثار الناس عليه بالفساد هو وولدية من محكمة النقض ،ونفذوا حكم الحبس ، وتعلو الأصوات التي نؤيدها بوجوب أن يسود القانون الجميع ،وأن تنتهي موجات الإرهاب ، وتنتهي حالة الطواريء التي مازالت معلنة لمواجهة الإرهاب الذي مازال يستبيح دماء المصريين ،وتثور حوله وحول من يؤيده علامات استفهام كثيرة .
-سيطرت عليّ هذه الخواطر وأنا أنهي قراءة رواية بطن البير ،هذه الرواية التي قالت ما شهدناه في فترة عصيبة من تاريخ مصر في العصر الحديث ،هذه الرواية تقع في حوالي 220 صفحة ،وتتكون من اثني عشر فصلا ،يبدأ كل فصل بعبارة من عبارات الشخصية التي ستكون محور الفصل ،والتي تميزت بأن كتبتها كاتبتان هما د أميرة شاهين ،د أميمة السيد ،أبدعتا في الكتابة حيث كتبت كل واحدة ستة فصول بالتناوب ،أي تكتب واحدة فصلا وترسله للأخرى فتكتب الفصل الذي يليه ،ثم تعيده للأولى لتكتب التالي وهكذا ،والأبداع في كون الأسلوب ليس فيه تباين أو سقطات أو ما يشير لأي كاتبة منهما ، وقد اتفقتا منذ البداية على الخطوط العريضة ،فجاء السرد محكما ،
-البطولة في الرواية للشخصية الرئيسة (راوية ) ثم (خالد ) ثم مجدي ثم طارق .
– السرد في الرواية جاء سردا مباشرا على لسان الأبطال ،والسرد المباشر يعطي حميمية للعمل رغم كونه لا يفتح أفق الحكي مثل السارد العليم ،ومن خلال السارد المباشر ،كان يتم حكي بعض الأحداث ،وتتم العودة للماضي ،فيخبر عنه ،أخذت (راوية ) أكبر مساحة فروت لنا اثني عشر فصلا ،ثم (خالد )روى ستة فصول ،ثم طارق روى فصلا ثم مجدي روى فصلا .
-بطن البير رواية اجتماعية بامتياز :(راوية) طبيبة شابة ،تموت ابنتها نور في حادثة ،فلم تعد تتحمل عنف زوجها مجدي معها ،وتصر أن تنفصل عنه ،ويفشل في الاحتفاظ بها ،كما ترفض العودة ل(طارق )حبها الأول ،والذي أحبته في بداية حياتها ،وتخلى عنها ،وفضل السفر ، وترتبط (راوية) عاطفيا ب (خالد ) المهندس الشاب ،الذي اتهم ظلما ،وسجن وعذب ،وقتل أخاه أمامه ،ولم يكن قادرا على أن يدافع عنه ، (خالد ) يحاول الانتقام ،ولكنه يفشل ،وتقوم ثورة 25 يناير فيستعيد خالد الكثير من لياقته النفسية ، ويتعرف على (راوية ) يذهبا معا للتحرير ، وتتوتر العلاقة بينهما ،لكنهما يعودان للتواصل ،ولا ترى (راوية ) في مستقبلها سوى (خالد)
-الرواية اجتماعية كما بينا لأن القضايا التي تناقشها الرواية هي قضايا الواقع الاجتماعي المأزوم في الدول النامية :
-الفساد وكيف ماتت نور بسبب ذلك الفساد والاستهانة بالأرواح .
-التمييز ضد المرأة والعنف ضدها ،والاعتقاد الخاطيء أن الدين يبيح للزوج أن يضرب زوجته ،وهو سلوك ضد الدين والأخلاق وكل حقوق الإنسان ،الدين الذي أسس لحقوق الإنسان في العالم لا يمكن أن يؤسس للعنف والاعتداء الجسدي ،والمعنوي ، آية الضرب في القرآن الكريم لا يمكن أن نفتي فيها بما يقصده الله ،وقد سبقت بأمور واجبة هي أولى ،ولم يرو حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب أيا من زوجاته ،ولو بسواك ، وأحسب أن العنف أساس تخلف العالم الثالث ،وقد بين ابن خلدون رائد علم الاجتماع في مقدمته الشهيرة أن العنف يدمر الحاضر والمستقبل .
– البلطجة ،ومخالفة القوانين ،وتعذيب المساجين الذي يفضي إلى الموت ،وهي جرائم إنسانية لا تسقط بالتقادم ،أحسب أن مصر تحاول جادة أن تبييض ملف حقوق الإنسان ،فقد سمحت للبعض بزيارة المساجين للتحقق من حسن المعاملة ،وأعلنت أن الجميع يخضع للقانون ،ولا يوجد أحد فوقه ،ولا يوجد أي قانون يسمح بالعنف.
– مواقع التواصل الاجتماعي ،وكيف صارت مؤثرة ،فتعرف راوية وخالد كان على الفيس ،ومعظم الحوارات بينهما تمت على صفحاتهما الشخصية ، وكيف تحول التعرف على الفيس من وهم إلى حقيقة .
– ثورة 25 يناير ،كثورة اجتماعية نادت ب (عيش حرية عدالة اجتماعية ) وهي أهم حقوق الإنسان التي تدعو لها المنظمات الدولية ،وتحرص على التوعية بها ونشرها ،واحترام إنسانية الإنسان مهما كان مستواه الاجتماعي ،والرواية تحرص على حكاية بعض الأحداث وووصف الأماكن والأحداث من شهود عيان.
-قضايا الزواج والطلاق ،والتمييز بين الرجل المطلق الذي له كل الحقوق ،والمرأة المطلقة التي تحوم حولها كل الشبهات ،وينظر إليها بنظرة غير إنسانية وغير منصفة ،وتعاني كثيرا ،وكأنها هي السبب الوحيد للطلاق .
-رواية بطن البير كتبت بعناية ،وتحققت فيها عناصر الرواية التقليدية :الزمان ،والمكان ،والأشخاص ،والعقدة ،والحل .
-امتد الزمان سنوات ليلائم الحدث الروائي ،سواء ما بين موت ابنة راوية ،وقيام ثورة يناير،أو بالعودة لأحداث الماضي ،فقد قضي خالد 12 سنة في السجن ،وكل ذنبه إنه كان يصلي في المسجد الذي قبضوا فيه على بعض المتهمين بالتطرف ،وهو ذهب إليه مجاملة لأخية .
،الزمان لم يكن ممتدا بلا هدف لكن الأشخاص تطورت في هذا الزمن: ،راوية تركت زوجها ،ورفضت طارق ،وخالد شفي من أمراضه النفسية وواجه من عذبه ،وصار أقوى ،وتجاوزت راوية محنتها ،ونجحت في عملها الجديد وتعرفت على خالد ، وأعجبها ،وارتبطت به عاطفيا .
، وتعددت الأماكن في الرواية ،حمام السباحة الذي ماتت فيه نور ابنة راوية ،
والبيت ،والسجن ،وميدان التحرير ،والشوارع المحيطة ،والفيس بوك
ورغم الأثر الواضح للمكان على الأشخاص ،لكن الأماكن لم توصف بصورة تجعلنا نتخيلها بدقة .
،أما الأشخاص فقد أجيد رسمهم من الناحية النفسية ،والاجتماعية ،والفيزيائية ،رغم حاجتهم للمزيد من الرسم الفيزيائي ،لتزيد الحميمية بين القاريء وبين الشخصيات الرئيسة ،وخالد أفضل من رسم فيزيائيا على لسان راوية تقول :
” كان واقفا واضعا يده في جيبه ،وقد انحنى ظهره قليلا ،واقتربت منه وبانت لي ملامحه ،لحيته وشاربه ،وعيناه السوداوان ،وبدا لي كصورة قديس من العصور القديمة ،كان أطول مني ،وكان يبتسم لي ..”
-عقدة الرواية ،وحبكتها هادئة ،وقوية ، وتدعمها براعة الاستهلال الذي يشدنا مع أول جملة في الرواية تقول راوية :” لم أعد أريد من حياتي هذه غير أن تنتهي ” !!
لقد تشابكت أحداث الرواية ، وانفصلت راوية عن مجدي ،ورفضت طارق ،وحدث سوء تفاهم بين راوية وخالد ،حيث فسر أن تجيء راوية بطارق لزيارته في المستشفى بأنه صار لا شيء بالنسبة لها ،وأنها ستعود لحبيبها الأول ،وهي كانت تظن أن ذلك معناه أن طارق لا شيء بالنسبة لها ،وأنه صار شخصا عاديا ،يذهب معها لمن تهتم بزيارته .
-الحل: رغم أن مشكلة خالد قد حلت بعد الثورة ،وبعد مواجهته للجلاد ،وخوف الجلاد منه ،وتركه للفندق ،ورغم أن سوء التفاهم بين خالد وراوية انتهى ،بأن صرحت له أنه كل مستقبلها ، فإن مشكلة خلافات من ثاروا في يناير لم تحل ،وتركت للزمن ،كما أن مشكلة الفساد لم تحل ،ولا مشكلة العنف ضد المرأة ،أو البلطجة ،أومخالفة القانون ،
ويبدو هذا الحل أكثر واقعية حيث ترك أغلبه لنا لنتخيله .
-كما نجد عمقا رمزيا حرصت عليه الكاتبتان ، ودعمته طريقة السرد ، ولأن الرمز يفسر ولا يحل ،ولأنه مستوى من مستويات التلقي التي ميزت هذه الرواية ،فقد حرصنا أن نورده باختصار من زاوية رؤيتنا له ،إن ما جعلنا نكتشف عمقا رمزيا للرواية هو البطلة (راوية) والبطل (خالد) راوية تحدثت في أكثر من نصف فصول الرواية حديثا مباشرا ،وتواجدت في كل الفصول.
،وكذلك تقول راوية عن طارق حبها الأول الذي يحاول العودة لها : ” حاول أن يحتفظ بيدي بعض الوقت ،لكني لم أمهله ، قررت بيني وبين نفسي أن أسلم عليه مرة أخرى ..”
،بينما تقول عندما التقت بخالد وذهبا معا إلى ميدان التحرير :” كنت أسير إلى يمينه ،وكات واضعا يده اليسرى في جيبه ،وتذكرت حديثه عن ذراعه الضامرة …ورأيت كفه اليمنى بجوار كفي ،ولم أقدر أن أمنع نفسي ..مددت كفي لتستقر في كفه ،وانتبه هو وحرك رأسه تجاهي ،ليجدني ناظرة أمامي مباشرة ،لم أقدر على النظر إليه ،وأحكم قبضته على يدي بحنان ..وانتابني إحساس جميل ..أن هكذا خلقنا الله..أنا وهو ..كفي بكفه ..”
-الموقفان طبيعيان ولا تناقض فيهما (راوية ) الأولى طبيبة محافظة ،لا تحب أن يعبث أحد بمشاعرها ،أو يستغلها ،أما (راوية ) الثانية ترمز لمصر ،وليس هناك ما يمنع أن تضع مصر يدها في يد شعبها المخلص ،وأن يحنوا عليها الشعب ،يصونها ويحميها ،كما فعل (خالد )
هذا العمق الرمزي يزيد الرواية قوة وتأثيرا.
، تقول راوية :”..لم تكن الثورة في الميادين وحدها ،بل كانت في عقل كل واحد منا وفي قلبه ”
،ويقول خالد :” خروج الحقيقة أمام أعيننا يجردها من الرهبة ،يجعلنا نتناولها ،تطالها إيدينا ،نزيح الأغطية المعتمة التي تغلفها ،تتقلص إلى حجمها الطبيعي ،فنراها كما يجب أن تكون ،دون خوف أو وهم ”
-أحبت راوية خالدا ،وأحبها خالد ،ولم يحدثا أحدا في أمر زواجهما ، ولا حدثا نفسيهما .
– كما تبدو الروح المصرية في معالجة أعتى المشكلات برومانسية عاليةة ،والتي توترت بين الحق والواجب ،ومشكلات الواقع المأزوم ،وحاولت علاجه ،بكثير من العقل والتعقل ،والحكمة ،وقد بدت سمات من يعيشون على ضفاف الأنهار في رفض العنف ،والانتقام ،النيل هاديء خيّر ،لكن فيضانه مدمر .
– لغة الرواية فصحى معبرة في السرد ،وفي الحوار بعض العامية ،تميزت بالسلاسة ،والسهولة ،والعذوبة ،وضبط بعض ألفاظ الفصحى إملائيا ،ونحويا أوصي به في الطبعات القادمة إن شاء الله .
-كما أحسب أن الرواية تتسع لجزء ثان .
-وفي ختام هذه القراءة السريعة أتمنى أن تظل الروح المصرية تتمسك بالحق والواجب ، وأن تزيد مساحة الرومانسية ،سائلا الله التوفيق والسداد للجميع ..
عذراً التعليقات مغلقة