تتجاوز أزمة الأمن الغذائي وارتفاع الأسعار ونقصان الغاز في أوروبا إلى “هندسة” خريطة جيوسياسية وجيو استراتيجية جديدة من الأورال إلى الألب.
على بوتين أن يتذكر قول ماركس: “الرجال يصنعون تاريخهم بأنفسهم، لكنهم لا يصنعونه كما يريدون”
بعدما قبل “الناتو” عضوية فنلندا والسويد هو: ما مصير “المنطقة الرمادية” بين روسيا و”الناتو”؟
* * * *
بقلم: رفيق خوري
الرؤية معطلة بدخان الانفجارات في حرب أوكرانيا، وسط تصور البعض أن كثافة الدخان ترسم شكل المستقبل. ومن الصعب، على الرغم من دخول شهرها الخامس، تقدير ما الذي تقود إليه. لكن الظاهر حالياً هو إمكان أن تحصل روسيا على “نصر بلا سلام”. والمفترض أن التحولات الهائلة في الحرب وحولها، تتجاوز أزمة الأمن الغذائي وارتفاع الأسعار ونقصان الغاز في أوروبا إلى “هندسة” خريطة جيوسياسية وجيو استراتيجية جديدة من الأورال إلى الألب. وليس أمراً قليل الدلالات أن يرفع الرئيس فلاديمير بوتين عيار التحدي للغرب بعد احتلال لوغانسك وإكمال القتال في دونيتسك وقراءة ما خرج من ثلاث قمم خلال أسبوع واحد: قمة الاتحاد الأوروبي وقمة مجموعة السبع وقمة “الناتو”. فهو أيقن حدود ما يمكن أن يصل إليه الغرب الأميركي والأوروبي: أسلحة ومساعدات مالية لكييف. لا صدام مباشراً على جدول الأعمال. ولا استبعاد لتعب هذه الدولة الأوروبية أو تلك وبدء التمايز في المواقف من موسكو. حتى عضوية تركيا في “الناتو” وانفتاحها على روسيا وأوكرانيا ودورها في العمل لتصدير الحبوب الأوكرانية، فإنها لم تمنع الرئيس رجب طيب أردوغان من السعي لعملية عسكرية جديدة ضد الكرد في شمال سوريا وسط الاعتراضين الروسي والأميركي.
يتحدى قادة الغرب
ذلك أن بوتين، سواء كان يشعر بالقوة أو بالضعف، يهدد بالقول “إن الأعمال الجدية في أوكرانيا لم تبدأ بعد”. ويتحدى قادة الغرب الذين يتحدثون عن هزيمة استراتيجية لروسيا: “إذا أرادوا التغلب على روسيا في ساحة المعركة، فليحاولوا”. أما وزارة الخارجية، فإنها رفعت الصوت أعلى، بعدما وجد الوزير سيرغي لافروف نفسه في عزلة في اجتماع مجموعة العشرين في “جزيرة الآلهة” في بالي الإندونيسية: “لم تستبعد صداماً بين روسيا وأميركا إذا واصلت واشنطن التصعيد”. ولا رأت في التخوف من استخدام موسكو للأسلحة النووية سوى أنه افتراء “غير مقبول”. والمفارقة أن بوتين هو الذي أعلن من بداية الحرب إصدار أمر لقواته بوضع السلاح النووي في “حال التأهب”. ومن الغرائب أن تتهم موسكو واشنطن بأنها “تدفع نحو حرب نووية”.
الحرب، في أية حال، لا تتحرك في اتجاه واحد. فالقوات الأوكرانية بدأت عمليات هجوم معاكس. والأسلحة المتطورة يمكن أن تغير في مجرى الحرب، فضلاً عن حرب العصابات التي يبرع فيها الأوكرانيون. وعلى بوتين أن يتذكر قول ماركس: “الرجال يصنعون تاريخهم بأنفسهم، لكنهم لا يصنعونه كما يريدون”. وعلى الجميع التوقف أمام معادلة البروفيسور جوزف ناي، مبتكر تعبير “القوة الخشنة والقوة الناعمة”، وهي إنه “في عصر المعلومات، يتوقف النجاح ليس فقط على من يربح جيشه بل أيضاً على من تربح قصته”. قصة روسيا مملوءة بتزوير التاريخ وليّ عنق الحقائق والخطاب الخشبي والإنكار الكامل لكل ما يحدث في الحرب، حتى الحرب، فإن اسمها في الكرملين هو”عملية عسكرية خاصة”. وقصة أوكرانيا قابلة للإقناع وتتم روايتها عبر إعلام ذكي سواء من خلال الرئيس فولوديمير زيلينسكي، الذي استخدم موهبته كممثل، أو من خلال الإعلام الأميركي الأوروبي. وليس التهديد الروسي بالصدام المباشر سوى أداة لضبط الصدام بالوكالة في أوكرانيا.
“المنطقة الرمادية”
والسؤال بعدما قبل “الناتو” عضوية فنلندا والسويد هو: ما مصير “المنطقة الرمادية” بين روسيا و”الناتو”؟ سؤال طرحه تشارلز كوبشان في “أتلانتيك” حول مستقبل أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا. والجواب حائر بين ثلاثة: مد روسيا الحرب من أوكرانيا إلى مولدوفا وجورجيا. حياد سياسي مع ضمانات أمنية من تحالف دولي متماسك. والانتماء إلى الاتحاد الأوروبي.
ولا شيء مؤكداً في الحرب. فمن يطلقها يصبح أسيرها بعد بدئها. ومن يرسم الخرائط الجديدة يكتشف أن الرسم على الورق شيء والتحولات على الأرض شيء آخر.
* رفيق خوري كاتب صحفي لبناني
المصدر: اندبندنت عربية
موضوعات تهمك: