«تقليدية» بوتين كبديل عن «ليبرالية» الغرب
- حدّد بوتين «معايير» استنفاد الليبرالية دورها وكأنه يتحدّث بلسان اليمين الأوروبي المتطرّف وأقطابه!
- يحاول بوتن القول إن الديمقراطية الغربية نفسها ما عادت صالحة كنموذج أو قيمة تتوجه الشعوب المأزومة إليهما.
- تقلّبات وتراجعات في السياسات الغربية أتاحا لروسيا ولصين الحُكم السلبي على الليبرالية واستطراداً على الديمقراطية.
- يفسر بوتين سياسات ترمب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كتحوّلات أميركية- غربية من الليبرالية إلى تقليدية محافظة.
* * *
بقلم | عبد الوهاب بدرخان
يعرف الرئيس الروسي عمّا يتكلّم، وعندما نعى أخيراً الليبرالية الغربية لم يكن يستخدم «بروباغندا» من النوع السوفييتي البائد، بل يستند إلى وقائع يتعامل معها.
وهناك مَن يقول إنه يدفع إليها ويساهم في صنعها، من خلال القرصنة الإلكترونية أو «الحرب السيبرانية» التي لم تهدأ بعد منذ اكتشاف التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية، وفي انتخابات أخرى أوروبية.
لكن الأهم أن فلاديمير بوتين يفسّر مجمل سياسات دونالد ترامب وتوجّه بريطانيا إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست) على أنها عوارض تحوّلات أميركية- غربية من اعتناق الليبرالية للعودة إلى النهج التقليدي المحافظ.
ولا غرابة في هذا الاستنتاج فقد أسهب الإعلام الغربي قبل سواه في وصف وتحليل ظواهر الانحدار المتواصل لأحوال الليبرالية فكراً وممارسة. لكن مجلة «إيكونوميست» خصّصت موضوع غلافها قبل أسبوعين، مدفوعة بتصريحات بوتين، للأزمة التي تمرّ بها «المحافظة» Conservatism حول العالم.
حدّد الرئيس الروسي «معايير» لاستنفاد الليبرالية أهدافها، مشيراً تحديداً إلى المعارضة الشعبية للهجرة، وفتح الحدود، والتعدّد الثقافي، والتسامح الاجتماعي… ما انعكس سلباً، في نظره، على الثقافة والتقاليد والقيم الأسرية لغالبية السكان.
كأن بوتين يتحدّث بلسان اليمين المتطرّف وأقطابه، من ترامب إلى الإيطالي ماتيو سالفيني، والمجري فيكتور أوربان، والفرنسية مارين لوبن، وصولاً إلى بوريس جونسون الذي يستعد لتسلّم رئاسة الحكومة البريطانية.
فكل هؤلاء يتبنون سياسات يعتبر بوتين أنه سبقهم إليها، بل إنه أصبح رائدَ موجةٍ عالمية، يسعون هم إلى اللحاق بها، لكن بعضاً منهم لم يتخلّص بعد من قيم الانفتاح التي أرستها الليبرالية.
لكنه يتجاهل طبعاً أن هذا الانفتاح الذي كُرّس بعنوان «العولمة» كان المحرّك الرئيسي للازدهار الاقتصادي، وهذا ما لم تشهده روسيا إلا جزئياً.
في الواقع، لا تبدو تنظيرات بوتن ترويجاً لفشل الليبرالية فحسب، بمقدار ما هي محاولة للقول إن الديمقراطية الغربية نفسها ما عادت صالحة كنموذج ولا كقيمة يستحقان توجيه الشعوب المأزومة إليهما.
لذلك جاء الردّ عليه بأن النموذج المستوحى من تجربته أفضى عملياً إلى «الاستبداد وعبادة الفرد وحكم الأقليات»، وفقاً للبولندي دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي، وإلى إفساد «حكم القانون» و«الحريات العامة»، كما نبّه البريطاني بوريس جونسون.
أي أن نهجاً آخر غير الليبرالية وتلازمها مع الديمقراطية لم يتبلور بعد. مع ذلك، يمكن بوتين أن يحاجج الأوروبيين بأن «اتحادهم» لا ينفكّ يتصدّع وأن مجتمعاتهم تعود تلقائياً إلى تقاليدها السابقة عبر القوميين والشعبويين، يميناً ويساراً، الذين أصبحوا «قوة تغييرية» عبر صناديق الاقتراع.
لا تكمن خطورة آراء بوتين في الاستنتاجات التي ساقها، بل في أن «التعددية القطبية» العالمية، كما تدافع عنها روسيا والصين، باتت تفرض مفاهيمها، سواء في تجاوز ميثاق الأمم المتحدة وتعطيل مجلس الأمن الدولي، أو في دفاعهما الصلب عن الحالات الاستبدادية (سوريا كمثال) حتى عندما ترتكب الأنظمة جرائم حرب.
فضلاً عن رعايتهما لدول مثل كوريا الشمالية، أو اعترافهما الفعلي بالجماعات «اللا دولتية» التي تستشري هنا وهناك، وتسعى إلى إدامة نمط صراعات يتيح لأفرادها سلطة لا مشروع لها وغير قابلة للتطوّر أو لبلورة مجتمعات مستقرّة.
لكن ما أتاح لروسيا وكذلك للصين هذا الحُكم على الليبرالية، واستطراداً على الديمقراطية، هو ما تريانه من تقلّبات وتراجعات في السياسات الغربية.
فكثيراً ما شهدت بكين استعدادات أميركية وأوروبية بغض النظر عن انتهاكات فاضحة لحقوق الانسان في مقابل صفقات تجارية، كما أن موسكو استطاعت مراراً إبرام تسويات سياسية مع واشنطن لقاء السكوت عن مجازر في الشيشان، وتوسّع روسي في أراضي دول مجاورة.
* عبد الوهاب بدرخان كاتب وصحفي لبناني
المصدر | العرب
موضوعات تهمك:
طموح بوتين وقيادة الاقتصاد العالمي
Sorry Comments are closed