بقلم: بشير عبد الفتاح
رغم أنها لم تكن المرة الأولى منذ اندلاع الثورة السورية، التي تقصف فيها قوات الأسد أهدافا بدول مجاورة، حيث تعرضت بلدات في الأردن ولبنان لقصف سوري في الوقت الذي ظلت إسرائيل كما الجولان السوري المحتل بمنأى عن أية تحرشات من هذا النوع، حبست دول المنطقة -والمجتمع الدولي برمته- أنفاسها بعد أن لجأت حكومة أردوغان إلى البرلمان التركي طلبا لتفويض بعمل عسكري ضد سوريا، في أعقاب تعرض قرية حدودية تركية لقصف سوري أودى بحياة خمسة أشخاص كما أسفر عن جرح آخرين.
دوافع الاستفزاز:
من بين دوافع شتى أغرته للتحرش العسكري بالجار التركي، برزت غايتان أساسيتان توخاهما نظام الأسد من وراء هذه الخطوة التصعيدية والاستفزازية في آن: أولاهما، توسيع نطاق الأزمة السورية وخلط أوراقها، وتشتيت الاهتمام المحلي والدولي بتفاصيلها، على نحو يوجد مناخا مواتيا لدعم مزاعمه بأن هناك مؤامرة إقليمية ودولية حيكت ضد سوريا، وليست ثورة شعبية تنشد الإطاحة بنظام الأسد وانتزاع الحرية للشعب السوري.
أما ثانيتهما، فتتجلى في رغبة النظام الأسدي في التثبت من الخطوط الحمر التركية، واختبار قدرة أنقرة على تحمل الاستفزازات والانتهاكات السورية.
وهو الاختبار الذي لم يكن الأول من نوعه، حيث سبق لنظام بشار الأسد أن سعى لاستفزاز الأتراك مرات عدة، ربما كان أشدها وطأة إقدام المضادات الأرضية السورية في يونيو/حزيران الماضي على إسقاط طائرة مقاتلة تركية إثر اختراقها الأجواء السورية، وتم قتل طياريها بعد أسرهما، فيما لم يستتبع ذلك تحركا تصعيديا عسكريا من قبل أنقرة ضد نظام دمشق وقتذاك.
غياب الجاهزية:
على الرغم من حزمة الخطوات التي تبدو ظاهريا تصعيدية من قبل أنقرة حيال نظام الأسد كنصحها رعاياها بمغادرة سوريا، وتلويحها بإقامة منطقة عازلة أو منطقة حظر جوي بينها وبين سوريا، وتشديدها للتدابير الأمنية والعسكرية، ونشرها طائرات التجسس من دون طيار لمراقبة التحركات السورية بالقرب من حدودها.
ورغم ما تردد عن وصول عتاد حربي أميركي كثيف إلى قاعدة إنجيرليك بجنوب شرق البلاد. وحتى بعد موافقة البرلمان التركي على منح الحكومة تفويضا للقيام بعمليات عسكرية خارج البلاد لمدة عام كامل، يصعب القول إن أنقرة قد باتت قاب قوسين أو أدنى من تجاوز الخط الأحمر الذي يحول بينها وبين القيام بعمل عسكري، بأي مستوى، ضد الجار السوري.
ويستند هذا الطرح على ركيزتين أساسيتين:
أولاهما، عدم توفر الأجواء التي من شأنها أن تضمن لتركيا عملا عسكريا ناجعا يكفل تحقيق أهدافه بأقل كلفة ممكنة على كافة الصعد. وأما ثانيتهما، فتتمثل في توجس تركيا من التداعيات السلبية الخطيرة المحتملة لأي عمل عسكري ضد سوريا.
وفيما يتعلق بالركيزة الأولى، يمكن القول إن حكومة العدالة التركية مسكونة بمشاعر القلق والوحدة في مواجهة الأزمة السورية، حيث تخالجها شكوك في جدية نوايا القوى الإقليمية والدولية بشأن التدخل لوضع نهاية ملائمة لمأساة الشعب السوري والمنطقة.
فمن جهة، لم تحسم القوى الإقليمية والدولية أمرها حيال مصير بشار الأسد، ففي حين يتراءى لبعضها إبقاؤه في الحكم لمرحلة انتقالية مع التخلص من الشخصيات الأشد نفوذا، والأكثر حماقة في نظامه مثل شقيقه ماهر الأسد، وباقي أقربائه وأصهاره، يذهب بعض آخر إلى ضرورة الإطاحة به توطئة لإعادة إنتاج النظام البعثي بوجوه جديدة، تؤدي ذات الدور المفيد للقوى الإقليمية والدولية وإن بأدوات وأساليب مغايرة.
وتستبد بالأتراك مخاوف من أن يجدوا أنفسهم بمفردهم في أتون حرب ضروس ضد نظام بشار، حيث لا تبدو القوى الدولية راغبة في التورط عسكريا داخل سوريا.
فبينما اكتفى مجلس الأمن الدولي بإصدار بيان محايد وغير ملزم يدين، على استحياء، العدوان السوري على تركيا، بدا حلف الناتو غير متحمس لذلك هو الآخر، حيث التأم اجتماعه الطارئ على مستوى السفراء ببروكسل إثر دعوة تركية بموجب المادة الرابعة من ميثاقه وليس المادة الخامسة، التي تلزم الحلف بالتدخل لنصرة أية دولة عضو فيه تتعرض للعدوان.
كما اكتفي الاجتماع بإدانة العدوان السوري على تركيا والمطالبة بوقفه، ومناشدة الطرفين ضبط النفس والتصرف بحكمة لتجنب تفجير المنطقة، وهو ما يتماشى مع تأكيد الأمين العام للحلف غير مرة عدم نية الأخير التدخل عسكريا في الأزمة السورية.
وتتشكك أنقرة في إمكانية تغير الموقف الروسي حيال نظام الأسد، ليس على خلفية تدخل مندوب روسيا لدى مجلس الأمن الدولي للتخفيف من صيغة البيان الخاص بالقصف السوري على تركيا فحسب، ولكن لتيقن الأتراك من أن واشنطن لن تضغط على موسكو في هذا المضمار، حرصا على مصالح وتفاهمات ثنائية أكثر أهمية، كالدور اللوجستي الذي تضطلع به موسكو في دعم القوات الدولية بأفغانستان.
ومن زاوية أخرى، تعي حكومة العدالة أن المعركة ضد قوات الأسد لن تكون سهلة، فبرغم وجود مؤشرات على تدهور الروح المعنوية لتلك القوات، وبينما تقدر أعداد المنشقين عن الجيش النظامي السوري بعشرات الآلاف، إلا أنه ليس بمقدور هذا العدد بعد تشكيل “الكتلة الحرجة” التي يمكن أن تغير من موازين القوة ومعادلة الصراع على الأرض.
خصوصا أن النظام السوري تلقى مددا من إيران تمثل في قوات الحرس الثوري ومقاتلي حزب الله، لتعويض التسرب والعجز في الولاء بين العسكريين السنة، الذين يعي النظام أنه لا يمكنه الاعتماد عليهم كليا لوأد الثورة الشعبية.
وبينما اشتدت وطأة الضغوط الاقتصادية عليه جراء الاضطرابات الداخلية والعقوبات الدولية، استفاد الأسد من تجربة إيران في التحايل على العقوبات الدولية والالتفاف عليها وتسهيل التحويلات المالية الدولية عبر مصارف في روسيا والصين وروسيا البيضاء، كما نجح في إبرام اتفاق مع روسيا البيضاء لبناء مصنع لمعدات تطوير قدرات صواريخ أرض أرض، ووافقت إيران بدورها على تمويل المشروع على أن يتضمن الاتفاق بندا ينص على تزويد حزب الله بنصف الصواريخ المحسنة مطلع العام 2014.
وبرأسها تطل صعوبة توفير الإجماع الداخلي بتركيا على القيام بعمل عسكري ضد نظام بشار، فعلى المستوى الشعبي، حاصرت التظاهرات مبنى البرلمان التركي بأنقرة إبان الجلسة الطارئة التي عقدها للحصول على تفويض من مجلس النواب يخول الحكومة القيام بعمل عسكري إذا ما ارتأت في ذلك ضرورة.
وعلى المستوى الحزبي، لا تبدي غالبية الأحزاب التركية حماسا للتصعيد العسكري ضد سوريا، حتى أن الحزب الجمهوري، أقوى أحزاب المعارضة، يعتبر سياسة حكومة العدالة عموما حيال المسألة السورية -وفيما يخص التدخل العسكري فيها تحديدا- مراهقة سياسية تستتبع ضررا بالغا بمصالح تركيا.
محاذير التصعيد:
أما بخصوص الركيزة الثانية والخاصة بتداعيات التصعيد العسكري، فيتملك حكومة العدالة هلع من احتمالات سقوط سوريا في غياهب الحرب الأهلية، بما يثقل كاهل تركيا التي تتجاوز حدودها المشتركة معها 900 كيلومتر، خاصة مع تدفق عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى الأراضي التركية.
وتخشى حكومة العدالة من أن يفضي الإخفاق في وضع إستراتيجية خروج واضحة ومحددة الأجل بعد التدخل العسكري إلى استمرار حالة الفوضى في سوريا، خصوصا إذا ما صاحب ذلك غياب للبديل المناسب الذي يمكن التعويل عليه لنظام الأسد، حيث تضرب الانشقاقات والتصدعات أطنابها في جبهة المعارضة السورية.
وينتاب الأتراك خوف من جنوح نظام الأسد للعبث بالملف الإثني عبر استخدامه لأكثر من مليوني كردي سوري لتأجيج المسألة الكردية في تركيا بعد أن زج بهم إلى الحدود معها، ومنحهم مساحات شاسعة من الأرض مقابل قض مضاجع الأتراك، في الوقت الذي قد ينتهز حزب العمال الكردستاني، الذي يدعمه نظام بشار وفقا للرواية التركية، الفرصة ويتحصل على ترسانة الجيش النظامي السوري من الصواريخ المضادة للطائرات ويستخدمها لإجهاض عمليات الطائرات العسكرية التركية ضد معاقل الحزب الكردستاني.
ويتوجس الأتراك خيفة من تلاعب الأسد أيضا بالفسيفساء الإثنية داخل سوريا والمنطقة، حيث أشارت دراسة نشرها مركز القدس للدراسات السياسية إلى أنه قد وضع خطة لإقامة دولة علوية على امتداد ساحل البحر المتوسط، كما يعمل على تقسيم سوريا إلى “كانتونات” وإمارات سنية ودرزية وكردية وعلوية، تسكن كل منها مجموعة عرقية أو دينية مختلفة، فيما تكون السيطرة في النهاية للعلويين.
وتخشى أنقرة كذلك من احتمالات تدهور علاقاتها مع كل من طهران وموسكو بعد تحسن ملفت خلال السنوات القليلة المنقضية، لا سيما أن الدولتين صارتا تعتبران أنقرة رأس حربة لمؤامرة دولية وإقليمية ضد دمشق والمصالح الروسية والإيرانية في المنطقة.
ولقد تأثرت العلاقات التركية الإيرانية سلبا بموقف تركيا من نظام الأسد، حتى أن رحيم صفوي المستشار العسكري لمرشد الثورة الإيرانية طالب أنقرة بضرورة إعادة النظر في مسعاها لتسويق ما اعتبره “علمانية مسلمة غير متوقعة ولا يمكن تصورها” في العالم العربي، وهدد حكومة العدالة بمواجهة مشاكل مع شعبها وجيرانها من العرب والعجم، إذا لم تتراجع عن دعم الثورة السورية.
رسائل تطمين:
وضعت الأزمة السورية حكومة العدالة التركية في موقف لا تحسد عليه، فبينما يتملكها يقين بضرورة طي صفحة بشار الأسد، وهو ما لن يتأتى إلا بتدخل عسكري، فهي تبدو من جانب آخر مغلولة الأيدي في هذا الصدد للأسباب آنفة الذكر، لذا حرصت على أن يكون ذلك بيد عمرو وليس بيدها، وذلك عبر إلقاء الكرة بملعب فاعلين إقليميين ودوليين كالناتو والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، فضلا عن الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي.
بيد أن تردد الفاعلين الإقليميين والدوليين في هذا الشأن إثر تعقد الأزمة وتنوع محاذير الإطاحة بالأسد عبر التدخل العسكري، قد تمخض عن حالة استقطاب حادة بين أنقرة وأولئك الفاعلين، فكل يريد أن يلقي بكرة اللهب في يد الآخر، محاولا بلوغ غايته من دون دفع فاتورة التكاليف الباهظة.
وتلافيا منها لتلقف تلك الكرة أو تحمل عبء هذه الفاتورة، آثرت أنقرة تبني إستراتيجية الرد بالمثل على التحرش والاستفزاز السوريين مع ضبط النفس، وتجنب التورط في أي عمل عسكري موسع ضد دمشق.
وبالتوازي، هرعت حكومة العدالة إلى تطمين الداخل والخارج بشأن نيتها عدم التصعيد العسكري، عبر عدة إجراءات، انصرف بعضها نحو الداخل، بغية امتصاص غضب الشارع التركي جراء القصف السوري المتكرر للأراضي التركية.
فإلى جانب نقل قيادة الجيش السوري الحر من تركيا إلى الأراضي المحررة في سوريا بعد أكثر من عام اتخذ خلاله من الأراضي التركية ملاذا وقاعدة، قامت القيادة التركية بنشر قواتها على طول الحدود مع سوريا منذ حادثة سقوط الطائرة التركية المقاتلة في شهر يونيو الماضي، ولم تتردد القوات التركية في القيام بالرد سريعا وبحزم على أي قصف سوري لأراضيها.
أما على الصعيدين الإقليمي والدولي، فقد عمدت أنقرة إلى تبني “إستراتيجية الطمأنة” حيال دمشق والمجتمع الدولي، حينما أعلنت أن تفويض البرلمان للحكومة بالقيام بعمليات عسكرية خارج البلاد إذا ما ارتأت الحكومة ضرورة لذلك، لا يعني بالضرورة إعلان الحرب على سوريا، بقدر ما هو ورقة لحماية الأمن القومي التركي لا تستخدم إلا عند الضرورة، كما تثبت جاهزية أنقرة للردع.
ولقد ذهبت حكومة العدالة إلى أبعد من ذلك حينما أعلنت على لسان نائب رئيس الوزراء بشير أطالاي أن سوريا قدمت اعتذارا لها على القصف، وهو ما نفاه صراحة مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة.
وهنالك، بدت الحكومة التركية كما لو كانت تختلق الذرائع، وتبتكر المسوغات لتبرير عدم انجرارها وراء استفزازات بشار الأسد، وحرصها على ألا تستدرج لأي تصعيد عسكري ضد جارتها السورية، تاركة مآلات الأمور مرتهنة بتطورات الأوضاع على الأرض السورية، أو للتحولات الممكنة في مواقف القوى الإقليمية والدولية، طالما لم يتخط الأسد خطوطا حمرا تركية لا تهاون بشأنها، كالعبث بالملف الإثني فعليا، أو تكرار اعتداءاته العسكرية بوتيرة أسرع ومستوى أعلى، أو استخدام الأسلحة الكيميائية والجرثومية.