يظهر الاستثناء الأميركي أن تيارات واسعة مؤيدة لترامب لم يهتز إيمانها به.. سياسات ترامب ضد الهجرة تهدد جذب العقول للبقاء في أميركا.
بقلم: محمد المنشاوي
عاد الجدل الدائر بشأن ما جرى في قمة هلسنكي بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، تسليط الضوء على مفهومي “فقط في أميركا” و”الاستثناء الأميركي” على نطاق واسع.
وتاريخياً ارتبطت “فقط في أميركا” تقليدياً بظاهرتين، طبيعة النظام السياسي المختلفة عن كل الديمقراطيات في العالم، وإمكانية تحقيق الأحلام.
في أميركا فقط، يستطيع أن يصل مرشح رئاسي إلى الحكم حتى حال عدم حصوله على أغلبية أصوات الناخبين، وقد حدث ذلك مع مرشحَين جمهوريَين وصلا إلى البيت الأبيض، فجورج بوش الابن حصل على أصوات تقل عما حصل عليه الديمقراطي آل غور بنصف مليون صوت في انتخابات 2000.
وتكرر السيناريو مع ترامب الذي حصلت منافسته الخاسرة، هيلاري كلينتون، على 2.5 مليون صوت أكثر منه. يسمح نظام المجمع الانتخابي المتبع في أميركا بذلك، ولا يحدث مثله في أي نظام سياسي آخر.
وارتبط ثاني هذه المظاهر بالقدرة على تحقيق الحلم لكل من تطأ أقدامه الأراضي الأميركية. وبرزت هذه الظاهرة في العقود الأخيرة، مع احتضان الولايات المتحدة ملايين من طلاب الدراسات العليا الأجانب (في التكنولوجيا والهندسة والكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والرياضيات) وعدم رغبتهم في العودة إلى أوطانهم بعد انتهاء الدراسة، لتحقيق حلمهم في أميركا.
وسيمثل انتهاء هذا السيناريو، حال حدوثه، انتهاء فكرة “الحلم الأميركي” لملايين من أنبغ البشر، وأكثرهم قدرة على الخلق والإبداع. وما زالت عبارة “فقط في أميركا” ترن في أذن صاحبها، مذكّرة إياه أو إياها بأنه يمكن تحقيق الحلم في أميركا فقط. ويعتقد كثيرون أن سياسات ترامب المتشدّدة تجاه الهجرة تهدد جذب العقول للبقاء في الولايات المتحدة.
أما عبارة “الاستثناء الأميركي”، والتي ابتكرها المفكر الفرنسي، أليكسيز دي توكفيل، الذي رأى أن الولايات المتحدة مختلفة عن بقية الدول، ولديها مهمة عالمية محدّدة لنشر الحرية والديمقراطية. واستخدم الكاتب هذا التعبير أول مرة في كتابه “الديمقراطية في أميركا” الصادر عام 1839.
وتحول هذا التعبير، مع الوقت، ليصبح جزءاً من الأساطير الجمعية التي تشكل جزءاً مهماً من الوعي واللاوعي عند الأميركيين. وتعتقد المدرسة الفكرية الأميركية أن أميركا، الفكرة والحدوتة، عظيمة بطبيعتها. ويدعم هذه المقولة إيمان أغلب الساسة هنا بأن:
“العالم ينتظر من الولايات المتحدة أن تقود العالم، وأن تحل مشكلاته. ولذا، عليها أن تمهد طريقها لقيادة العالم في العقود المقبلة، وأن حل مشكلات العالم يتطلب مؤهلات وإمكانات، ودورا تستطيع أميركا فقط أن تقوم به”، طبقا للرئيس السابق باراك أوباما الذي أضاف: “كل دول العالم تشعر بالغيرة، وتتمنى أن تكون في مكانة أميركا وقوتها”.
ولا يجادل أحد في قيادة الولايات المتحدة العالم تكنولوجيا واقتصاديا لأسباب مختلفة.
نعم تختلف وتتغير طبيعة هذه القيادة، فأحيانا تشاركها قوى أخرى، مثل أوروبا أو الصين أو روسيا، وأحيانا أخرى يقل تأثيرها وتختفي قوتها، مثلما الحال في أفغانستان. في أحيان ثالثة، تكون قوتها عرضة لقيود كبيرة تقلص من تأثيراتها، كما الحال في أزمة كوريا الشمالية.
ورغم الصعود الصيني السريع، إلا أن المدرسة الفكرية الأميركية تؤمن بأن زمن الأفول الأميركي لا يزال بعيدا.
وتبرهن على ذلك بأن العالم، وأغلب سكان الأرض، يحيون بالصورة والطريقة التي يختارها العقل والذوق الأميركيان، من خلال تطبيقات تكنولوجية متنوعة، من “آيفون” و”تويتر” وفيسبوك” إلى “غوغل” و”أمازون”، ومن “مايكروسوفت” و”أنستغرام” وصولا إلى “يوتيوب”.
ورغم تمتع الولايات المتحدة بتاريخ قصير جدا، طبقا لمعايير عمر الأمم والدول، إذ لا يتعدى 242 عاما، إلا أنها عرفت ثباتا مؤسسيا يُشهد له، رغم نقاط قصور هنا وهناك، ويمثل ترامب خروجا عن النسق العام السياسي الأميركي…
نعم، زلزلت تصريحات الرئيس ترامب في قمة هلسنكي ثوابت السياسة الأميركية مرة أخرى، إلا أن هذا الزلزال (لم تتوقف توابعه بعد) يختلف عما سبقه، حيث صدرت هذه التصريحات عن ترامب، وهو خارج الأراضي الأميركية، في أثناء وقوفه بجوار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وأنها ارتبطت بالأساس بإهانة أجهزة استخبارات بلاده التي يعد هو شخصيا رئيسها الفعلي.
فقط في أميركا، يمكن لرئيس أن يقف الخصم الرئيسي لبلاده ويدعمه، ويشكّك في مصداقية أجهزة الاستخبارات. وفقط في أميركا، يمكن أن يصف برلماني، مثل السيناتور جون ماكين، ما حدث بأنه “أسوأ لحظات الرئاسة في التاريخ الأميركي”. وفقط في أميركا يمكن لمدير سابق لأهم وكالة استخبارية (سي آي أيه)، جون برينان، أن يصف ما قام به ترامب في هلسنكي بأنه “ليس أقلّ من خيانة”.
في الوقت نفسه، يظهر الاستثناء الأميركي أن تيارات واسعة مؤيدة لترامب لم يهتز إيمانها به، وبما يفعله، إذ تعتقد أن كل ما أُثير بشأن قمة هلسنكي يرتبط بصراع ترامب مع الدولة العميقة، وليس بصراع واشنطن مع موسكو.
خرجت تيارات وأصوات مؤيدة له، ولما قام به، بداية من لقائه الرئيس الروسي، ونهاية بانتقاده أجهزة استخبارات بلاده. وتعتقد هذه التيارات أن ترامب حقق انتصارا كبيرا في هلسنكي.
- محمد المنشاوي كاتب صحفي في الشؤون الأميركية من واشنطن.