أمريكا على مفترق طرق وتبدو فاقدة لبوصلتها، وتمر بمرحلة خطيرة وحالكة!
لم يعد يُنظر لأمريكا الدولة المدافعة والراعية الأولى للديمقراطيات والحريات حول العالم.. وتلك انتكاسة للديمقراطية، وانتصار حقيقي للطغاة والديكتاتوريين!
تفاقم الانقسام سيفجر حرب أهلية أمريكية مع استمرار استهداف ترامب الدولة العميقة بعد تفتيش “أف بي آي” منزله لاستعادة وثائق سرية يحوزها مخالفا القانون.
خشية حقيقية من أنه إذا أدين ترامب في أي تهمة فيدرالية وحُرم الترشح أو عوقب بالسجن، فسيتحول لـ”الرئيس الشهيد” ضحية مؤامرة الدولة العميقة ما قد يفجر حرب أهلية أمريكية!
اختطف الجناح المتشدد الحزب الجمهوري وغدا رهينة لترامب، الذي تعرض مؤخرا لاقتحام مقر اقامته واستجوابه مع أولاده من المدعية العامة في نيويورك حول تلاعب بقيمة عقاراته وتلاعب بالضرائب أقر بها المدير المالي لمؤسسة ترامب!
* * *
بقلم: د. عبد الله خليفة الشايجي
ختمت مقال الأسبوع الماضي، “انقسام وتراجع ديمقراطية أمريكا… يفقدها زعامتها”، بتأكيد أنه بسبب الانقسامات والصراع السياسي وخطوط الصدع الاجتماعي الذي يسعره اليمين واليسار المتطرف ضمن الطيف السياسي، فإن الولايات المتحدة تقترب من نذر تراجع ديمقراطيتها وفقدان مكانتها كمرجع وملهم للديمقراطية والمشاركة والمساءلة السياسية.
أمريكا على مفترق طرق وتبدو فاقدة لبوصلتها، وتمر بمرحلة خطيرة وحالكة! ولم يعد يُنظر لأمريكا الدولة المدافعة والراعية الأولى للديمقراطيات والحريات حول العالم.. وتلك انتكاسة للديمقراطية، وانتصار حقيقي للطغاة والديكتاتوريين!
يخشى أن زيادة حدة الانقسام والتخندق الحزبي والاجتماعي سيفجران كما يخشى البعض حرب أهلية، خاصة مع استمرار استهداف الرئيس السابق دونالد ترامب الدولة العميقة بعد تفتيش عناصر مكتب التحقيق الفيدرالي منزله في فلوريدا لاستعادة وثائق بالغة السرية احتفظ بها بمخالفة القانون الفيدرالي.
خاصة الوثائق المتعلقة بالملف النووي الأمريكي وغيرها من الملفات الحساسة التي مفترض أن يسلمها الرئيس لمركز الأرشيف الوطني بعد تركه البيت الأبيض.
كما يخضع ترامب لعدة محاكمات بتحريضه أنصاره اقتحام الكونغرس لإبطال الإعلان الرسمي عن فوز الرئيس جو بايدن بانتخابات الرئاسة في 2020، ويصر بعد 21 شهراً من خسارته بأن الانتخابات سُرقت منه بمؤامرة.
وهناك عشرات النواب ومسؤولين من حزبه الجمهوري يروجون لتلك الكذبة والادعاءات المضللة. وتحقق لجنة 6 يناير 2021 في الكونغرس منذ عام باعتداء أنصار ترامب المتشددين وتمت محاكمة وسجن بعضهم لاقتحامهم مبنى الكونغرس في واشنطن وتهديد الديمقراطية الأمريكية ومكانة أمريكا.
زادت في الأسبوع الماضي حدة الانقسام وتعمقت الفجوة في النظام الأمريكي على خلفية التطورات السياسية ونتائج الانتخابات التمهيدية لتصفية مرشحي الحزب الجمهوري حيث يتعمق الانقسام، بل النزف والاصطفافات داخل الحزب الجمهوري بين المرشحين المتنافسين الذين يسعون لانتزاع ترشيح حزبهم ضد مرشحي الحزب الديمقراطي للتنافس على المقاعد في الدوائر الانتخابية الذي يجري تصفية مرشحي حزبه في نفس الدوائر الانتخابية، لخوض انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر القادم.
تجرى انتخابات التجديد النصفي لجميع أعضاء مجلس النواب،435 نائبا، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ الذين أمضوا 6 سنوات منذ انتخابهم وحكام الولايات الذين أنهوا 4 سنوات في مناصبهم المنتخبة. عادة تكون انتخابات التجديد النصفي تصويت واستفتاء على سياسات وانجازات الرئيس وحزبه خلال أول عامين وانقضاء نصف مدته الرئاسية.
رغم تحقيق الرئيس بايدن انتصارات مكلفة له ولإدارته، إلا أنه نجح وإدارته في الشأنين الداخلي والخارجي بتحقيق إنجازات مميزة منها داخلياً: تمرير حزمة قوانين مهمة الإنقاذ وتتعلق بتطوير البنى التحتية، والبيئة والصحة وقوانين مهمة للتعامل مع ارتفاع التضخم وأسعار السلع والوقود، مثل تمرير قوانين خفض التضخم، وتقنين حيازة الأسلحة وارتفاع عدد الوظائف في القطاع الخاص وتوقف ارتفاع التضخم، وانخفاض نسبة البطالة، وأسعار الوقود، وتعيين أول قاضية سوداء كاتنجا براون جاكسون بالمحكمة العليا أرفع محكمة في السلطة القضائية الأمريكية.
في الشأن الخارجي نجح الرئيس بايدن وإدارته: بقيادة المجتمع الدولي وحلف الناتو بمواجهة روسيا في حربها على أوكرانيا كرأس حربة في حشد الدعم اللازم ليكبد روسيا كلفة كبيرة وتحويل الحرب لحرب استنزاف.
كما قاد الرئيس بايدن مساعي توسيع حلف الناتو للتصدي لأطماع وعدوان روسيا في أوروبا، بضم السويد وفنلندا لحلف الناتو ليرتفع عدد أعضاء الحلف لـ32 دولة ولتتضاعف حدود حلف الناتو مع روسيا، طول حدود فنلندا 1300 كلم.
في المقابل بات الحزب الجمهوري مختطفاً من جناحه المحافظ المتشدد، وشبه رهينة للرئيس السابق دونالد ترامب، الذي تعرض في الآونة الأخيرة لسلسلة انتكاسات محرجة آخرها اقتحام مقر اقامته في فلوريدا واستجوابه مع أولاده من المدعية العامة في نيويورك حول تلاعب بقيمة علاقاته وشبهات حول انفاق وصرف مؤسسة ترامب والتلاعب بالضرائب أقر بها المدير المالي لمؤسسة ترامب!
كما كان صادماً رفض ترامب الإجابة على أسئلة الادعاء العام في نيويورك أكثر من 400 مرة، وحكم قاضي فيدرالي بوجوب تسليم سجل الضرائب الذي يعارض تسليمه للجنة تحقيق في الكونغرس.
ونرى بدء تبلور اصطفاف مضاد لترامب داخل حزبه الجمهوري يقوده نائبه السابق مايك بنس الذي يدعم مرشحين للكونغرس ينافسون مرشحين يدعمهم ترامب، وكذلك من حاكم ولاية فلوريدا دي سانتس، وبدأ بعض الإعلاميين من اليمين الأمريكي يتساءلون هل تحول ترامب إلى عبء على حزبه.
مع ذلك وصل الأمر بالرئيس ترامب لمعاقبة النواب الجمهوريين المرشحين لإعادة انتخابهم بدعمه مرشحين يؤمنون بنظرية المؤامرة الكاذبة التي يروج لها.
وقد نجح ترامب نسبياً بالانتقام من بعض النواب العشرة من حزبه الذين صوتوا مع الديمقراطيين قبل عامين في محاكمته في مجلس النواب وهي الخطوة الأولى في عملية عزله، (فشلت مرتين لعدم توفر 67 صوتا للديمقراطيين في مجلس الشيوخ) 4 من النواب العشرة، قرروا عدم الترشح، و4 خسروا انتخابات الحزب الجمهوري التمهيدية لمرشحين مدعومين من ترامب، واثنان عبرا لمواجهة مرشحين ديمقراطيين في انتخابات نوفمبر القادم.
شكلت هزيمة ليز تشيني من النواب الأربعة الذين خسروا لمرشحين مدعومين من ترامب انتكاسة قوية لابنة ريتشارد تشيني نائب الرئيس بوش الابن والقيادية الوسطية في الحزب الجمهوري، صوتت مع ترامب في 90% من مشاريعه لكنها عُزلت حزبياً لخلافها مع ترامب وتجرؤها على فضح أكاذيبه.
كان انتقام ترامب منها مهيناً بخسارتها المدوية لمرشحة دعمها ترامب. لكن ذلك كشف الانقسام الحاد داخل الحزب الجمهوري نفسه الذي حوله ترامب إلى طائفة متشددة مع أنصاره من داخل وخارج الحزب.
وغير مستبعد أن تقود ليز تشيني الجناح الوسطي في الحزب وتترشح ضد ترامب في انتخابات الرئاسة، ما سيقسم الحزب ويفتت الأصوات ويضمن خسارة مرشح الحزب في انتخابات الرئاسة 2024!
هناك خشية حقيقية في أمريكا اليوم، أنه إذا ما أدين ترامب في أي من التهم المرفوعة ضده على المستوى الفيدرالي، وحُرم من الترشح أو حكم عليه بالسجن كعقوبة على تجاوزاته، فإنه سيتحول كما وصفه أحدهم لـ”الرئيس الشهيد” ضحية مؤامرة الدولة العميقة، وهذا سيفجر حربا داخلية في أمريكا ويفقدها روحها ومزيد من رصيدها ومكانتها وزعامتها!
٭ د. عبد الله خليفة الشايجي أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك: