تحولات فكرية خطيرة في عالم مضطرب
- في عالم تواصلي غير منضبط، تكثر أنصاف الحقائق وتزوّر التعابير.
- ديمقراطية بلا ضمير ولا روح تقتات على غوغائية يمين منغلق في الفكر والأفق والمدى الإنساني.
- لم تعد المجتمعات تختار وتكافح وتفرض نظامها الاقتصادي بل أصحاب المال وأزلامهم بالسلطة السياسية.
- أيديولوجيات صلبة متكاملة ومتناغمة المكونات أفَلت لتخلفها أفكار سياسية متناثرة تتناول جزئيات المشهد.
بقلم: علي محمد فخرو
نحن في عالم لا يتصف فقط بتغيرات علمية وتكنولوجية هائلة، وإنما يتصف أيضا بتحولات جذرية فكرية وقيمية وأخلاقية وسلوكية خطرة تقارب الجنون. ففي عالم الاقتصاد ما عاد الإنسان أمام مدرستين متقابلتين، الرأسمالية والاشتراكية، ليختار أحدهما، وإنما أصبح أمام مدرسة شبه وحيدة ومهيمنة على العالم كله.
إنها الرأسمالية النيوليبرالية العولمية المتوحشة، القائمة أساسا على المضاربات والتلاعبات المالية على حساب الاقتصاد الإنتاجي من جهة، وعلى الحرية المطلقة للأسواق لكي تضبط إيقاع الحياة الإقتصادية من جهة اخرى:
– الممجدة للاستهلاك الفردي والجمعي المادي والمعنوي النهم، ولو أدى لتدمير البيئة،
– والداعية إلى فردية أنانية غير معنية بما حولها من مجتمعات وبشر،
– المصرة على خصخصة كل الخدمات العامة، وعلى الأخص الاجتماعية منها، وذلك من أجل تقليص أدوار ومسؤوليات وسلطات الدولة في الحياة العامة إلى أقصى الحدود.
نحن أمام انقلاب تراجعي للمشهد الاقتصادي: ما عادت المجتمعات هي التي تختار وتكافح من أجل نفسها وتفرض نظامها الاقتصادي، وإنما الذي يفعل كل ذلك مجموعة صغيرة من أصحاب المال وأزلامهم من أصحاب السلطة السياسية.
اختفت النقاشات وتقلصت الخيارات وقل عدد المشاركين. وفي حقل السياسة تدمرت أيديولوجيات، متكاملة ومتناغمة في مكوناتها، لتحل محلها أفكار سياسية متناثرة تتعامل مع جزئيات المشهد السياسي، مكانا وزمانا وموضوعا، على حساب الكليات الإنسانية والشمول البشري.
إن الفكر العولمي السياسي، المرتبط أشد الارتباط بالفكر الاقتصادي النيوليبرالي العولمي، يقبل التعايش مع ممارسة الديمقراطية الليبرالية:
– بشرط أن تكون في صورة أحزاب مائعة، وانتخابات دورية تعيد إنتاج نتائجها نفسها، وبرلمانات منسجمة مع سلطة دولة قوية متسلطة،
– وبشرط أن لا شأن لمثل ديمقراطية كهذه، بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية،
– وبشرط أن يختفي إلى الأبد كل شعار يساري جماهيري، وأن تكون هناك ديمقراطية بدون ديمقراطيين مناضلين فاعلين.
إنها ديمقراطية بلا ضمير ولا روح، تقتات على جماهيرية غوغائية يمينية متطرفة منغلقة في الفكر والأفق والمدى الإنساني.
ومما ساعد على تقبل إنسان العصر تلك التحولات ووقوفه عاجزا أمامها إحاطته المتنامية المتشابكة بعوالم افتراضية تحيله وتحيل مجتمعاته إلى كيانات افتراضية خارج الـ”هنا” المكاني وخارج اللحظة الزمانية.
إنها عوالم تختلط فيها الحقائق بالأكاذيب ليتقبل الإنسان الأكاذيب وهو يحسبها حقائق، بسبب السيل الهائل من المعلومات المتناقضة والتأثير النفسي والذهني لشبكات التواصل الاجتماعي.
في عالم تواصلي كهذا غير منضبط، تكثر أنصاف الحقائق وتزوّر التعابير.
ألم يصبح الوطن العربي شرقا أوسطا، والصراع العربي الصهيوني خلافا فلسطينيا – اسرائيليا، والاحتجاجات المشروعة اضطرابات، وتدمير باص مدرسي وقتل من فيه من أطفال خطأ فنيا.
ألم يصبح اكتساح بلد وتدمير عمرانه وتشريد أهله تحالفا من أجل الديمقراطية ومناصرة الشعوب، وبناء مجمعات سكنية معزولة عن محيطها الجغرافي والاجتماعي والإنساني وغارقة في رفاهية عبثية تخطيطا مدينيا إبداعيا،
ألم يصبح إفلاس أصحاب المتاجر الصغيرة بسبب هيمنة المجمعات التجارية الكبيرة انفتاحا اقتصاديا وتشجيعا للاستثمار وتسهيلا لحياة المشترين،
ألم يصبح انتخاب رئيس دولة نرجسي بهلواني قائدا عظيما؟
نحن في عالم تموت فيه التعابير وتتشوة معاني الكلمات وتصبح الشعارات عبارة عن لوحات زينة قابلة لأن تنطق بما ليس فيها، حسب الأهواء والمصالح والتخيلات المريضة.
والنتيجة هي الصبر المفجع الذي يتميز به عالمنا المعاصر لتقبل الفساد وخيانة الأمانة والتلاعب بالصالح العام في مؤسسات الحكم والتشريع والقضاء والاقتصاد والدين والفنون والإعلام.
فلا عجب أن نصحو يوميا على أخبار الفضائح التي طالت بشرا كنا نعتقد أنهم حماة العفة ومؤسسات كنا نعتقد أنها حامية للأخلاق والقيم والسمو الروحي.
أخطر ما في الأمر أن العلوم والتكنولوجيا تتضاعف وتتحسن بصورة مذهلة، بينما يدخل الفكر والقيم الإنسانية والممارسات الأخلاقية السوية في عوالم الغموض والتشكيك والتزييف.
ورغم وجود محاولات جادة تحليلية ونقدية لكل ما يجري في عالمنا المعاصر، إلا أنها تواجه بمئات مراكز الأبحاث وألوف أصحاب القلم والكلمة، الذين يقومون بعمليات التبرير والمدح وخلط الأوراق والمفاهيم لإبقاء الإنسان في دوامة عدم اليقين وعدم الاستقرار على حال متوازن.
أسوأ ما في هذا المشهد غير المستقر على حال، وغير المالك لبوصلة تضبط مساره وتطوره، هو غياب برنامج تعليمي وتثقيفي متماسك لتهيئة إنسان ملم بطبيعة ما يحدث وقادرعلى مواجهة ما يحدث!
بل العكس هو الصحيح، إذ أن مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام تساهم هي الأخرى في إنتاج إنسان مستسلم برضى وغفلة لما يحدث من حوله، ولما يقدم له من أفكار وقيم يؤديان إلى هبوط مستمر في سمو وتوازن ونقاء إنسانيته ، وإلى عجز في ارادته، وإلى قبول مفجع لقدره البائس.
* د. علي محمد فخرو كاتب بحريني
اقرأ ايضاً : هل تفضي محاربة الدين إلى وأد أحلام الربيع؟