“لا تستهينوا أبداً بقوة الإنكار”. جملة عبقرية ذكرها أحد أبطال فيلم American Beauty الشهير. لن أفسر الآن لم استدعيت هذا الاقتباس بالتحديد. لنُذكّر أولاً بمناسبة “طبخة مينسك” التي جعلت كلاً من المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، يُعلنا أن اتفاقية ميسنك كانت “خدعة”، مصممة لإعطاء الوقت لأوكرانيا لكي تستعد عسكرياً للحرب.. وقد سقطت روسيا في هذا الفخ “بسذاجة”!
السؤال الأول: إذا ما أجبرت على التحيز، أتفضل أن تكون ساذحاً مستنداً على موقف مبدئي له حيثيات، أم ساذجاً متمسكاً بالتمثل بكل ما هو أمريكي وإن كان بلا مبدأ؟
السؤال الثاني: خسر الفريق الروسي أم ربح في نهاية هذه “الجولة”، إذا ما فضلت أنت الخيار الثاني وهو التمثّل، فمن الذي سقط في الفخ حقاً يا ترى؟
* * *
بقلم: تامر منصور
هذا “الشوط” من المواجهة بين أمريكا (الغرب) وروسيا، كاشفٌ للمواقف المبدئية والتوجهات، أكثر من كونه كاشف للموقف الجيوستراتيجي الدولي، الذي يبدو مصراً على نصب الأفخاخ التي يقع فيها الجميع. أولاً، حري بمن لا يملك من الأمر شيئاً سوى المتابعة ومحاولة الاقتراب من الحقيقة، ألا يكون ملكيّاً أكثر من الملك. فتصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رداً على تصريحات أنجيلا ميركل لجريدتي “دير شبيجل” و”تسايت” الألمانيتين ربما يكفي ويوفي بالغرض.
فقد علّق على “اعترافاتها” قائلاً بأنها: “غير متوقعة البتة، ومخيبة للآمال”. قد نتجه إلى الإستنتاج أن بوتين تم خداعه بالفعل. هذا إذا صدقنا أن ما قاله هدفه ليس تلميع صورة بلاده كمفاوض أمين، في مقابل ثلاثة أطراف مخادعة: فرنسا، ألمانيا وأوكرانيا. الاختيار ذاته ما بين التصديق-التشكيك ينطبق على “اعترافي” ميركل-هولاند؛ فأغلبية المحللين اختارت تصديق “الإعترافين”، ولا يمكن لومهم على ذلك، بل إن كاتب هذه السطور يميل إلى تصديقها بالفعل.
ذلك لا يمنع طرح أصوات شكّكت في الأمر. ما يدفع به هؤلاء أن الغرب حريص على إهانة وسيا، ليس فقط عسكرياً، بأقوال من عينة “روسيا خسرت معركة هوستومول” مما قضى على أسطورة التفوق الكاسح للطيران العسكري الروسي أو تحليلات تقول إن “روسيا ظنت أنها ستنهي الحرب خلال بضعة أسابيع”، ما يعني أن امتداد الحرب لما يزيد عن عشرة أشهر حتى الآن، يعني بالضرورة فشل روسيا، أو في الطرف الأبعد، يذهب البعض إلى أن روسيا خسرت الحرب، وانتهى الأمر. حسناً، لنصدق “اعترافات” ميركل-هولاند وبصحبتهم تصريح بوتين. لكن بتنحية الآراء جانباً “مؤقتاً”.
لا يمكن أن يصف أحد الحقيقة في “ملعب” المواجهة بما يخالف واقعها العسكري الحالي. أوكرانيا اقتطُع منها حوالي ثلث أراضيها، وبقية مساحتها تتعرض لقصف روسي حتى الآن، لا يرحم بنيتها التحتية. مع خطط وتقدمات روسية تتجه غرباً، تنفذ ببطء سلحفي لقطع مسارات الطرق المؤدية إلى الخطوط الأمامية من خاركيف شمالاً إلى خيرسيون جنوباً.
في إطار حرب استنزافية، تسعى فيها روسيا للسيطرة على أقوى مواقع أوكرانيا المحصنة، والمعززة بخطوط الإمداد من غربها. المؤمنة ضد تقدم روسي بخنادق متعرجة يحتمي بها المشاة الأوكرانيون، ومن وراء كلٍ من خنادقهم، ثلاثة خطوط دفاعية (دبابات، مدفعية، تليها قواعد متحركة لإطلاق الصواريخ قصيرة المدى).
بينما تستمر روسيا في استخدام الدرونز والصواريخ في قصف البنية التحتية للكهرباء وتسعى لاستهداف الدفاعات الأوكرانية المضادة للطائرات ورادارات المراقبة الجوية، لكي تتمكن من بدء استخدام القاذفات الجوية الثقيلة، التي تريد بها دك مواقع التحصين الأوكرانية على خطوط المواجهة، وفي أي مكان آخر إن أرادت. بينما تحاول أوكرانيا بتسليح ومعلومات غربية قصف قواعد روسية متفرقة، في استمرار لمسلسل عملياتها المتفرقة “التوكنية”، التي يستخدمها الإعلام الغربي للتقليل من قدرات روسيا الدفاعية، قائلاً بسهولة اختراقها لإحراج روسيا أمام المتابعين، فهم لا يتمنون العكس بالتأكيد!
تدور المعارك على هذه الشاكلة وأكثر، في إطار محاولة تحقيق الهدف الروسي المعلن بالقضاء على عسكريي أوكرانيا (الرسميين والميليشياويين)، على الطريقة التي وصفها قائد قوات “فاجنر” بمصطلح بغيض وهو ”مفرمة اللحم”. ومحاولات أوكرانية لتحقيق أي خروقات وإن صغر حجمها لتُبنى عليها آمال لا تورطها إلا في المزيد من الدمار والضحايا، واستدامة أمد الحرب. هذا هو الواقع.. نقطة.
عرض تلك الحقائق على من يقول أن “روسيا خسرت”، لن يجدي شيئاً، فالمطلوب يبدو أنه ينحسر لديهم شيئاً فشيئاً، في إثبات صحة آراء شخصية، وافتراضات حُوِّلت إلى حقائق بقدرة “غير قادر”.
بينما المرفوض مسبقاً هو النظر إلى الواقع الحقيقي وتفاصيله! بيد أن بعض المحللين، لا يريدون النظر إلى أية تفاصيل، فقد “طلسموا” أفكارهم على إثبات تفوق الغرب “الديموقراطي”، وعلى رأسه الولايات “المبهرة” الأمريكية، على “الساذجة الهزيلة” روسيا و”ديكتاتورها” بوتين. بينما إذا نظروا إلى تفاصيل حرب لا تزال دائرة، لن يروا – مثلهم مثل غيرهم – ما هو مختلف عما تم وصف بعضه أعلاه. أوكرانيا وضعت على المذبح، روسيا تتقدم سلحفياً على خطوط المواجهة، وتقصف بكثافة معظم مدن أوكرانيا. بينما أوروبا تترنح في حيرتها كعادتها، وأمريكا تخطط وتؤجج من بعيد، وكلها قناعة فائضة أنها أوقعت الدب في فخ “نهاية التاريخ”.. ثانيةً! الجميع وُضع في الاختبار، لننتظر النتائج. هي ليست مباراة كرة قدم لنقوم “بتشجيع” طرف على الآخر.
إن هي إلا دعوة للحفاظ على بوصلة تقييم الموقف، حتى نرى أياً من الأطراف لديه ما يقنع من حيثيات من الناحية النظرية المبدئية. ودعوة إلى النظر دون تنظير إلى أرض معركة جارية من الناحية العسكرية.. نقطة. الأمر لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بمنافسة بين الديموقراطية والإستبداد بأي حال. ومن يدّعون تأثير ذلك على آلية اتخاذ القرار – خاصة العسكرية منها – عند كلا الطرفين، لا يعرفون آلية Military Decision Making Process، لا الروسية ولا الأمريكية، ناهيك عن الأوكرانية إن وجدت. المواجهة الحالية ببساطة، تختبر قدرة جميع الأطراف، على التخطيط، التنفيذ، فرض أمر واقع أياً كان، والصمود، فلا يدعي أحدٌ معرفة لا يملكها.. نقطة. لكن يبدو أن هذه “الطلسمة” قد بلغت مراحل ميئوس منها عند كثيرين. وهنا يجدر أن يقولها أحدنا، وقد اخترت قولها. أعتقد أن السذاجة التي يجري الحديث عنها (وقد تكون حقيقية)، ليست حكراً على روسيا. فهناك من “يعشقون” الاعتقاد وهنا الخطورة – في أن روسيا سيتم إخضاعها عن طريق التنمر “الأمريكي”، Bullying into submission!.
إن نجح أحد في إقناع نفسه بهزالة روسيا، أطرح عليه أسئلة بسيطة: لم قد يحاول الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، “خداع” طرف “هزيل، وساذج”، بل ومستعد للتفاوض منذ 2015؟ هل من ساذج يعتقد أنه سيتم القضاء على روسيا مثلاً، أو تجريدها عسكرياً؟ أم أن الولايات المتحدة وجدت عندها مبلغاً تخطى المائة مليار دولار، كانت قد “حوّشته” خلال العام المالي الفائت، وقررت أن تقوم بصرفه على من لا يستحق المواجهة “لسذاجته وهزاله”؟ أو ربما تظن أنه إن حققت رايثيون ونورثروب جزءاً من أرباحها بالتكسب من الحرب، على جاري عادتها، ستتدحرج تلك الأرباح إلى جيوب المواطن الأمريكي، على طريقة Trickle-down Economics مثلاً؟
إذا كانت روسيا طرفاً يمكن خداعه، حسناً، هذه مسؤوليتهم، فليعالجوا تبعات ما صدقوه سابقاً. لكن السؤال المحير هو، ألا ترى معي ذاك المحلل الذي “تمثَّل” بأمريكا إلى درجة اعتقد فيها بأنه “هو” من خدع روسيا. هل يمكن أن نعد هذا التمثّل بالقطب الأكثر سطوة، بمثابة تعويض عن رهانات سابقة كانت تنصب “عاشقةً ولهانة” باتجاه أرض روسيا سابقاً؟.
وإن لم يكن ذلك هو السبب، يبقى السؤال، هل وصل الأمر فعلاً بالبعض إلى هذا الحد من تلاشي المواقف المبدئية، وتلاشي الفرد في “الذات” الأمريكية؟ لا وجود للتشجيع الأعمى في مثل هكذا مواجهة، ووصف الحقيقة كما هي، ليس تحيزاً.
فلا لوم على الواقع إذا كان يميل وإن ببطء باتجاه روسيا، حتى الآن. الأفضل أن تقوم بعض الأصوات بدعوة أنفسها إلى التوصيف من منتصف مسطرة المتابعة للاقتراب من الحقيقة، بدلاً عن التمثُّل، الإنحياز، إدعاء معرفة “النتيجة من الكونترول” والتلاشي أمام هالات الضوء التي تحيط بالبيت الأبيض في أعينهم المنبهرة! إذا اختار أحد ما تحويل فرضياته وتمنياته، إلى حقائق، يقترب وصف هذه العملية التحويلية إلى مرحلة “الدوجما Dogma”.
بينما إن قاربناها من الجانب السيكولوجي، نجدها تشبه عملية نفسية تتلخص في، رفض الواقع، ثم الكذب على الذات وتصديقها. هذا ما يسمى تحديداً بـ “حالة الإنكار State of denial”.
وإذا كانت السطور السابقة، نتجت عن متابع لم يختر التحيز سوى للموقف المبدئي، فما بالك كيف سيكون رد فعل روسي من مواليد نوفوجرود عندما يسمع مثل هذه الأصوات التي تعتقد في غيرها التحيز، ولم يصب التحيز سواها. وأين سيتمترس هذا الروسي، وراء حكومته وإن كانت أسذج أهل الأرض، أم سيصدق من أصابتهم حالة الإنكار، ممن “يتبعون” من يهددون أمن بلاده الاستراتيجي وينصبون لها الأفخاخ؟
إذا كنت تتمنى انقسام روسيا، فلا تكن ساذجاً يا عزيزي، لدرجة أن تدفع باتجاه توحيد شعبها على وصف من تنبهر بهم بـ”امبراطورية الكذب Empire of Lies”، أو وصفك بالـ”تابع” لها. وعلى “الساذج تدور الدوائر”. عذراً، للأمانة أردت أن اعترف وأعتذر هنا، عن إصداري ضحكة عالية عندما سطرت هذا التعليق الأخير.
هناك مثل إنجليزي يقول: “لا يمكنك الحصول على الكعكة، وأكلها أيضاً You cannot have the cake and eat it too”. المقصود هنا أن من يعلنون مواقف تتمنى – أكرر تتمنى- أن ترى روسيا تخسر، لذا تسارع في استباق الإعلان عن خسارتها التي لم تحدث.
وهي تنتمي بالجنسية إلى إحدى الدول الأوروبية أو أمريكا، فاللوم عليهم فقط ينحسر في الاستباق أو عدم تنويع المصادر أو ما شابه، بينما تبقى تحيزاتهم مفهومة ومتوقعة. برغم أنها ترسم صورة لمن يعلن عشقه لأغنية الشيخ إمام التي كتب كلماتها أحمد فؤاد نجم “جيفارا مات”، ثم يشمت في مقتله، وهو ثابت على مبدئه، لأنه كان “ساذجاً”! وهذا أيضاً تناقض مفهوم ومتوقع كما أسلفت في مقالة سابقة. بينما إن لم ينطبق ذلك الانتماء على حملة مشاعل “الردح” لروسيا، تمثلاً بأمريكا.
أبشركم بأن مشكتلكم أفدح. فقد انتقلت إليكم عدوى “حالة الإنكار” بنجاح. وأنبأكم أن السذاجة ليست “حصرية”. وأعلمكم بأن هذه السذاجة بالضبط، هي “مطيّة” البروباغندا الأمريكية. لنستمر إذن في مشاهدة المباراة ، بين فريق “السذاجة” الروسي وفريق “التمثُّل” الأمريكي، المقامة باستاد”دنيبرو أرينا” تحت الأضواء “الكاشفة“.
مع علمنا بنتيجة اللقاء مسبقاً، فقد فاز فريق “التمثًل” على فريق “السذاجة”، وباكتساح. لكنه فوز لا علاقة له بواقع ساحة الحرب بالطبع!
أما إذا ما كان لأحد إصرار على إسقاط فكرة “التحيز” بمعنى التشجيع على جميع متابعي مباراة مثل تلك، حسناً، لم لا. لنشاهد الاستوديو التحليلي للمباراة، باحثين عن إجابة على سؤالين خبيثين:
السؤال الأول: إذا ما أجبرت على التحيز، أتفضل أن تكون ساذحاً مستنداً على موقف مبدئي له حيثيات، أم ساذجاً متمسكاً بالتمثل بكل ما هو أمريكي وإن كان بلا مبدأ؟
السؤال الثاني: خسر الفريق الروسي أم ربح في نهاية هذه “الجولة”، إذا ما فضلت أنت الخيار الثاني وهو التمثّل، فمن الذي سقط في الفخ حقاً يا ترى؟
*تامر منصور كاتب صحفي مصري
المصدر: 180 بوست
موضوعات تهمك: