ثمة لوحات ليست في حقيقتها سوى التعبير عن لحظات من الروايات الدوستويفسكية الكبرى.
قد يكون من الملائم أن نتذكر هنا تلك المقارنة التي اعتاد النقاد والمؤرخون أن يقيموها بخاصة بين لوحة “المقهى الليلي من الخارج” لفان غوغ، ولوحة مونخ المعروفة بعنوان “أمسية في شارع كارل جوهان” التي رسمها مونخ في عام 1892. والطريف في الأمر أن عدداً كبيراً من ترجمات رواية “الشياطين” لدوستويفسكي قد استخدمها إما كلوحة تزيينية داخل الكتاب، وإما حتى على غلاف الكتاب بحيث ارتبطت اللوحة كلياً بشياطين دوستويفسكي.
* * * *
بقلم: إبراهيم العريس
تخبرنا باحثة نرويجية متخصصة إلى حد الوله بفن مواطنها الرسام إدوارد مونخ، أن هذا كان يعد الكاتب الروسي فيدور دوستويفسكي سيد أفكاره. ومن هنا ما يبدو على لوحات كثيرة له من أنها تكاد تكون رسوماً لروايات صاحب “الجريمة والعقاب”، بل لا يفوت الباحثة أن تذكر بأن مونخ كان في كل مرة ينكب فيها على إنجاز واحدة من لوحاته الكبرى يغرق في قراءة قصة أو فصل من رواية لكاتبه المفضل، ثم يفرغ نفسه تماماً لرسم اللوحة، وتضيف الباحثة أن ثمة من بين لوحات مونخ، لا سيما من تلك اللوحات العائلية التي تصور مشاهد موت الأطفال واجتماعات الأسرة من حول مريض يحتضر وما شابه ذلك من لوحات ينظر إليها عادة بكونها مشاهد من الحياة العائلية الخاصة بمونخ، ثمة لوحات ليست في حقيقتها سوى التعبير عن لحظات من الروايات الدوستويفسكية الكبرى، والحقيقة أن هذا ما يخطر في البال هذه الأيام بالذات وقد عاد إدوارد مونخ إلى الحضور من جديد في الحياة الفنية الفرنسية التي لا يغيب عنها على أية حال سوى فترات قصيرة ليعود إليها من جديد، إن عبر معرض أو كتاب أو مناسبة من المناسبات، فها هو يحضر الآن من خلال معرض ضخم يقام حالياً من 20 سبتمبر (أيلول) حتى 22 ديسمبر (كانون الأول) المقبل لعديد من أعماله الكبيرة في متحف أورساي، ويقام تحت عنوان شديد الإيحاء هو “قصيدة للحياة، للحب وللموت”. ومن الطبيعي أن يشكل هذا المعرض مناسبة للعودة إلى فن شديد الخصوصية، وإلى حياة شديدة الغنى، وإلى لوحات أساسية أخرى غير تلك “الصرخة” التي باتت مع الزمن من الشهرة بحيث يتساءل بعضهم عما إذا كان مونخ قد رسم غيرها في حياته!
أجواء محيرة
الحقيقة أن لا بد لهذه المناسبة التي ستشغل العاصمة الفرنسية وحياتها الثقافية ما لا يقل عن ثلاثة أشهر أن تتيح إلقاء نظرات “جديدة” إلى العوالم التي استقى منها مونخ، إن لم يكن مواضيع لوحاته، ففي الأقل أجواءها التي لطالما حيرت المؤرخين والنقاد من جراء مناخاتها الروسية، حيث لا بد من التنبه في الوقت نفسه إلى وجود مؤثرات أخرى في فن مونخ لعل في مقدمتها بالنسبة إلى المؤثرات التشكيلية، لوحات معينة لزميله الهولندي فنسنت فان غوغ، وفي هذا السياق قد يكون من الملائم أن نتذكر هنا تلك المقارنة التي اعتاد النقاد والمؤرخون أن يقيموها بخاصة بين لوحة “المقهى الليلي من الخارج” لفان غوغ، ولوحة مونخ المعروفة بعنوان “أمسية في شارع كارل جوهان” التي رسمها مونخ في عام 1892. والطريف في الأمر أن عدداً كبيراً من ترجمات رواية “الشياطين” لدوستويفسكي قد استخدمها إما كلوحة تزيينية داخل الكتاب، وإما حتى على غلاف الكتاب بحيث ارتبطت اللوحة كلياً بشياطين دوستويفسكي حتى وإن كان التمحيص سينفي ذلك، علماً بأن التمحيص نفسه سينفي من ناحية ثانية وجود أي تطابق في العمق بين لوحة مونخ هذه ولوحة فان غوغ!
خصوصية بين عالمين
مهما يكن من أمر ففي النهاية من المؤكد أن مونخ حين حقق هذه اللوحة لم تكن في ذهنه فقط رواية دوستويفسكي التي تؤكد الباحثة التي أشرنا إليها أول هذا الكلام، أنه كان قد انتهى لتوه من قراءتها في ذلك الحين، بل ستظل طوال حياته الرواية التي يعود اليها واضعاً إياها إلى جانب سريره، بل كانت في ذهنه كذلك لوحة فان غوغ، لكنه انتقل منهما فوراً إلى عوالمه الخاصة تلك العوالم التي سيمكن بكل سهولة، من ناحية بعيدة كل البعد عنهما، اعتبارها عوالم تنم بالأحرى عن أن مونخ فيما كان يحاول أن يعارض لوحة فان غونغ مستنداً إلى عوالم استمدها من “شياطين” رواية دوستويفسكسي، إنما كان يشعر بأن تقنيات “التقاطع” لدى إدغار ديغا، والمطبوعات اليابانية المستقاة من مشاهد مسرحيْ “النو” و”الكابوكي”، والتصوير الفوتوغرافي الذي كان قد بدأ لتوه يرتقي إلى مصاف واحد من الفنون الجميلة مجبراً فن الرسم على البحث لنفسه عن تقنيات جديدة، تلك التقنيات متجمعة تزوده بما لم يكن يتوقعه من أدوات توعية بالتهديد المخيم في كل مكان حوله فيشعره بالشجن وعدم الارتياح، وهو ما يعبر عنه بخاصة من خلال تصويره النظرات الفارغة والقاسية لرهط من أفراد يلوح الموت في وجوههم، وإن كان ثمة منهم من يجرون عربات الأطفال، إنهم على أية حال ينتمون مبدئياً إلى تلك البرجوازية التي تثقل كاهل المشاهد. والحقيقة أن البعد الكئيب للمشهد برمته سيصعب إدراكه بالنسبة إلى من لا يعرف لحظة التقاط المشهد وماذا تمثل في حياة مونخ نفسه، فذلك الوهن الليلي الذي يبدو كنعاس مميت إنما يرتبط في حقيقته بتجربة عاشها مونخ ذات ليلة بينما كان ينتظر عشيقته التي كانت قد واعدته طالبة منه أن يأتي لمقابلتها، لكن الذي حدث هو أنها “استقبلته بابتسامة ناعمة ومضت… فإذا بكل شيء يضحي فارغاً ويشعره بالوحدة…”.
غريب مرة أخرى
فور ذلك أحس مونخ كما يبدو أنه بات غريباً للغاية ومرتبكاً في عالم كان قبل ساعات فقط يحس أنه عالمه وأنه مؤتلف معه ولو بصورة موقتة، أما الآن فها هو يشعر كما لو أن الآخرين جميعهم ينظرون إليه مهددين ويحدقون فيه، أولئك أصحاب هذه الوجوه الشاحبة في ضوء المساء، أما هو فإنه في وسط اللوحة، ذلك الشخص الوحيد الذي يتحرك عكس التيار ويمشي في منتصف الشارع، فيبدو ذلك السائر وحيداً وكأنه يستحضر موقف مونخ الخاص كفنان “بوهيمي” وراديكالي، يلاحقه جبروت الطبقة الوسطى ضيقة الأفق الخانقة لكريستيانيا (الاسم القديم الذي كانت تحمله عاصمة بلاده ومدينته أوسلو)، على النقيض من عالم أكبر يمتد من برلين وباريس وما بعدها في تلك الرحابة التي كان ما برح يتوق إليها، ومع ذلك بالمقارنة، لا يزال هذا العمل رمزياً أكثر من كونه تعبيرياً، حيث إن القوة الخام لهذا الأخير مخبأة تحت الجمال الرائع لسماء الليل الزرقاء والمصابيح المتوهجة، والسطح المخملي الذي يحاول أن يخفي الرعب، ومع ذلك “فإن إتقان مونخ للرمزية يضمن أن هذه التفسيرات الشخصية لا تتطفل على رؤية الكآبة الكونية المستشرية وخوف كل فرد من جنون الحشد الطائش” كما يؤكد دارسو فنه.
بين الفن وسياسات الغضب
بقي أن نذكر هنا أن إدوارد مونخ ولد في جنوب النرويج لأب كان طبيباً من العاصمة التي كانت تسمى كريستيانا، وكانت بيئته العائلية متقشفة تطبعها مشاعر دينية عميقة زاد من هولها الموت المبكر للأم، وهو موت طبع الأسرة بأكملها بخاصة أنه سوف يجر لاحقاً ميتات كثيرة في العائلة، وهو سيطبع بشكل خاص فن مونخ حين سيبدأ ممارسة الرسم باكراً في حياته. ولسوف تكون بداياته الفنية الحقيقة في عام 1885 حين سيقوم برحلة إلى باريس يمضي خلالها ثلاثة أشهر بأكملها مقيماً ليلاً نهاراً في متحف اللوفر، لكن العاصمة الفرنسية لن يفوتها أن تطبعه في الوقت نفسه بمشاعر اجتماعية عميقة مناهضة للطبقات البورجوازية التي سيقول لاحقاً كم أنه لاحظ تطابقها مع مثيلتها في بلاده، وهكذا تضافر لديه بدء انصرافه إلى الرسم مع ارتياده حلقات ناقمة من شبان مثقفين راحوا يتصدون للأفكار والممارسات البورجوازية في البلد، وما لبث ذلك كله أن جعل مونخ جزءاً من الحياة الفنية، ولكن كذلك جزءاً من حالة الغضب الشبابية المتفاقمة، ومن هنا لم يفت لوحته المبكرة “الطفلة المريضة” أن تلفت الأنظار وتثير من حولها وحوله نقاشات لم تلبث أن جعلته في صلب الحياة الثقافية في المدينة، ومن هنا كان منطلقه حتى رحيله في عام 1944 عن واحد وثمانين سنة، وقد بات معروفاً في أوروبا كما في العالم كواحد من المؤسسين الكبار للتيار التعبيري في الرسم، ولكن كذلك كواحد من أشرس المناضلين في سبيل الفكر الإنساني، ولكن باستيحاء من فلسفة نيتشه الفيلسوف الذي تأثر به باكراً إلى درجة أنه رسمه ذات مرة في بورتريه سينافس في الشهرة والمكانة لوحته الأشهر (“الصرخة”).
* إبراهيم العريس: كاتب وباحث
المصدر: إندبندنت عربية
موضوعات تهمك: