بقلم: فؤاد فرحاوي
صار أكيداً أن أيام نظام بشار الأسد لم تعد كثيرة، وبقدر ما يكون هذا الأمر مدعاة للتفاؤل فإنه أيضاً مدعاة للقلق وشيء من التشاؤم. وليس من السهل القول إنه بمجرد خروج الأسد سينعم الشعب السوري بالاستقرار والأمن، فحجم القتلى والدمار في العمران والبنية التحتية ليس قليلاً. كما أن السلاح المنتشر في أرجاء سورية لا يبعث أيضاً على الاطمئنان، لأن هذا السلاح لا يُعرف إن كان سيوجه إلى إعادة تنظيم أجهزة الأمن أم سيتحول إلى أداة لدى الميليشيات لتحقيق مكاسب سياسية، تماماً كما حصل في ليبيا بعد مقتل القذافي.
قد تكون هناك آلية سياسية للتحكم في المجموعات المسلحة التي حاربت نظام الأسد، وهذا الأمر وارد جداً لاعتبارات إقليمية ودولية، لكن ليس من المؤكد أن يختفي العنف نهائياً. وفي الواقع، فإن السؤال المؤرق ليس هو التحكم في المجموعات المسلحة، وإنما من سيتحكم في ردود فعل “أغلبية” الشعب تجاه “الأقلية” التي ناصرت أو أجبرت على مناصرة نظام الأسد. وقبل أيام قال أحد رجال الدين العلويين إن نظام بشار الأسد ورطنا في الحرب مع السنّة. ويأتي هذا التعليق تعبيراً عن حالة من الرعب الذي أصاب الطائفة العلوية السورية من جراء الاقتناع السائد الآن بأن النظام قربت نهايته.
الجروح النفسية ليس من السهل أن ينساها الضحايا وأهاليهم، ومن الصعوبة إقناعهم بعدم المطالبة بتحقيق العدالة لهم، ولكن من المهم التفكير في المستقبل حتى وإن كان ذلك على حساب شيء من الحقوق الفردية. لقد نجح بشار الأسد بأدواته القمعية والأيديولوجية في إقناع الكثيرين من العلويين بأنهم يخوضون معركة وجود، أي إما أن يكونوا أو لا يكونوا. ولكن ألا يحق القول من باب الإنسانية ومن باب النظر إلى المستقبل بخطورة التفكير في الانتقام من الطائفة بحجة تأييدها للأسد وحمايتها له؟
يحق للجميع أن يطالب بتطبيق قانون العدالة ضد المجرمين، ولكن طريقة تطبيق القانون في ظل الاستقرار وسيادة النظام العام قد تختلف عن طريقة تطبيقه في حالة انهيار الدولة والنظام العام. وليس من المنطقي في حالة ما بعد الحرب التفكير في الضحايا والمجرمين فحسب، وإنما المسؤولية الأخلاقية والإنسانية تقتضي التفكير في أجيال ما بعد الحرب. ومهما بلغت المآسي فالقاعدة التي لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال أن الجميع شركاء في الوطن. وما دام أن أحداً لم يتنازل طواعية عن حقه في الوطن، بل وليس له الحق في أن يتنازل عنه لأنه مرتبط بحق أجيال قادمة، فإن الحكمة توجب تجاوز ثنائية “الأقلية” و “الأغلبية” والوقوف على أرضية “شركاء في الوطن” للبحث عن الحلول للمشاكل الآنية وحماية حق الأجيال القادمة في التعايش السلمي. ولنا في تاريخنا المعاصر نموذجان بارزان في هذا السياق، الأول عندما رفض بطل الحرية والسلام الأفريقي نلسون مانديلا منطق الانتقام من “الأقلية البيضاء” على رغم معاناة السود لعقود من الجرائم العنصرية لنظام الأبارتايد. أما النموذج الثاني فهو نموذج الرئيس الراحل للبوسنة والهرسك علي عزت بيغوفتش عندما رفض أن تقصف كنائس الصرب بحجة تدميرهم لمساجد البوسنيين، موجهاً بذلك رسالته إلى شعبه وجنوده والمجتمع الدولي أن حربه ضد جنود سلوبودان ميلوسيفيتش ورادوفان كارادزيتش ليست موجهة للإنسان الصربي وإنما غرضها الدفاع عن قانون التعايش الذي هو قدر أبناء البلقان.
الجغرافيا البشرية:
عانى الشرق الأوسط منذ مدة طويلة تقسيم جغرافيته السياسية، لكن الأسوأ الذي حدث هو تقسيم جغرافيته البشرية ففقد القدرة على أن يتحول التنوع فيه إلى محفز قوي للتعايش والإبداع والرقي بالحضارة المدنية. وبعدها جاءت أزمة تسلط “الأقلية السلطوية” باسم الأكثرية المجتمعية في بعض البلدان، وفي أخرى تسلطت “الأقلية السلطوية” باسم الأقلية المجتمعية، وفي النهاية تحول الجميع إلى أدوات للإضعاف المتبادل. ويزداد الوضع سوءاً عندما تتمدد آثار هذا الإضعاف في محيط إقليمي أوسع، أو عندما تدخل اعتبارات دولية لها حسابات قد لا تفيد شعوب المنطقة واستقرارها.
في الفترة الأخيرة حصلت تطورات في غاية الخطورة على مستقبل المنطقة، نقف فيها عند ثلاثة. أولها هجرة العلويين السوريين من ريف دمشق إلى اللاذقية التي تقطنها غالبية علوية، وثانيها تصريح غرانوش آكوبيان وزير الجاليات الأرمينية أن بلاده منحت الجنسية لـ4500 سوري خلال عام 2012. أما التطور الثالث فكان في مصر، إذ بالتوازي مع أزمة الدستور بدأ البعض التلويح بهجرة الأقباط من البلد.
تتجلى خطورة هذه التطورات في إمكان أن يتحول شركاء الوطن إلى “أقلية” خارج الوطن وضد الوطن وأبنائه من الأغيار. ولا يستبعد أن تشهد سورية بعد الأسد أحداثاً دموية ضد العلويين من دون أن يكون هناك وضوح في مقترفيها، وذلك بهدف إثارة رعب يدفعهم إلى الهجرة إلى الخارج وليس إلى اللاذقية فقط. ولنا في التاريخ دروس في هذا الصدد، فخلال معركة الاستقلال في الهند كانت فرق بريطانية تقوم بأعمال قتل ضد المسلمين وتنسب إلى الهندوس والعكس أيضاً، وهو ما أدى إلى ظهور تيار يطالب بالاستقلال عن الوطن الهندي ويؤسس دولة باكستان، لتضرب بذلك تجربة رائدة في التعايش بين الثقافات المختلفة ويتأسس عداء مستحكم لا تزال منطقة آسيا تدفع ثمنه إلى اليوم.
المخاوف المستقبلية في المنطقة تفرض على النخب جعل الحفاظ على التنوع الثقافي والتعايش في الوطن المشترك على رأس أولوياتها. وما الحفاظ على التنوع في الوطن المشترك سوى شرط رئيس للحفاظ على الذاكرة المشتركة التي هي ليست ملكاً لأبناء سورية والشرق الأوسط فحسب، وإنما هي ملك للإنسانية جمعاء التي تغرف من التجارب المختلفة قواعد السلام والرقي الحضاري. وبكلمة، الوضع لا يحتاج إلى تأجيل تحت ضغط صراخ الضحايا، وإنما العجلة ملحّة قبل أن تتحول “الأقليات” إلى مقاولات تُتَاجِر ويُتاجّر بها في بورصات من لا يحب السلام والاستقرار والتعايش.
———————
* باحث في منظمة البحوث الاستراتيجية الدولية – أنقرة – (أوساك).