التجربة التاريخية أثبتت أن قوة بريطانيا في صلابة تقليدها التاريخي والمجتمعي الذي تشكل الملكيةُ مرتكَزَه الأساسي.
فكرة البناء غير المسبوق تؤدي حتماً إلى الفردية المنغلقة والاستبداد العنيف من أجل إخضاع المجتمع لأهواء الثوار الحالمين.
الملكية البريطانية بخلاف بلدان أوروبية أخرى، تندرج في عمق الهوية السياسية للأمة، وتشكل مرتكزاً أساسياً من مرتكزات النظام السياسي.
تأسست الليبرالية الإنكليزية المحافظة على ثوابت ثلاث: الملكية؛ والكنيسة الإصلاحية؛ ونظام حقوق فردية يحمي المجتمع من سيطرة الدولة المطلقة.
تمت تحولات تاريخية كبرى في بريطانيا غالبا ضمن تقاليد مجتمعية وعبر حركية إجماع وطني بينما اتسم تاريخ فرنسا العاصف بقطيعة وثورات عنيفة.
بعكس ما يعتقد، ليست سلطة الملك في بريطانيا شرفية أو رمزية، بل هي جوهرية ومؤسسة في النظام السياسي، ولو كانت خارج مركز القرار الإداري والتنفيذي.
أصبحت بريطانيا نموذجا يدعو إليه فلاسفة الأنوار بأوروبا فانتقل روسو وفولتير ومونتسكيو إلى لندن مبشِّرين بالنظام السياسي الانكليزي الضامن للحريات العامة والفردية.
استفادت الجزيرة المعزولة عن أوروبا من استقرارها السياسي ومسارها الإصلاحي التوافقي، فكانت مهد الثورة الصناعية والتوسع البحري وشكلت أكبر إمبراطورية استعمارية.
* * *
بقلم: السيد ولد أباه
بعد رحيل الملكة إليزابيث الثانية، التي تربعت سبعين عاماً على العرش البريطاني، وتتويج نجلها تشارلز خلفاً لها، كثُر الحديث عن نموذج الملكية البريطانية في الديمقراطيات الغربية بكل خصوصياته التاريخية والدستورية.
كثيراً ما تُقارَن بريطانيا بجارتها اللدود فرنسا، واللتين ارتبط تاريخهما طويلا، إذ تحاربتا كثيراً وتنازعتا النفوذَ على العالم، وتداخل مساراهما السياسي والفكري.
ومع أن البلدين كانا مهد الحداثة التقنية والدستورية الحديثة، إلا أنهما انطلقا من خلفيتين متمايزتين، يمكن أن نطلق على إحداهما الخلفية الليبرالية المحافظة (بريطانيا) والأخرى الخلفية الثورية الراديكالية (فرنسا).
كل التحولات التاريخية الكبرى في المملكة الإنجليزية تمت في الغالب ضمن التقاليد المجتمعية وعبر حركية الإجماع الوطني، بينما اتسم تاريخ فرنسا العاصف بالقطائع والثورات العنيفة.
عندما عرفت بريطانيا «الثورة المجيدة» عام 1688، والتي أفضت إلى وثيقة الحقوق الشهيرة، استندت إلى تجربة ثلاثة قرون من التراكم الإيجابي للإصلاح السياسي والديني.
فتأسست الليبرالية الإنكليزية المحافظة على ثوابت ثلاث هي: الملكية بعد استعادتها والكنيسة الإصلاحية ونظام الحقوق الفردية الذي يحمي المجتمع من سيطرة الدولة المطلقة.
أصبحت بريطانيا النموذج الذي يدعو إليه فلاسفة الأنوار في أوروبا، وانتقل روسو وفولتير ومونتسكيو إلى لندن مبشِّرين بالنظام السياسي الانكليزي الضامن للحريات العامة والفردية.
وعندما عرفت فرنسا ثورتها الشهيرة سنة 1789، لم يتحمس لها المفكرون البريطانيون، بل اعتبروها طريقا للفوضى والعنف، بل والاستبداد والطغيان.
وكتب في هذا الباب «ادمون بورك» كتابه «تأملات حول ثورة فرنسا»، ذهب فيه إلى أن خطورة هذه الثورة تكمن في قطيعتها مع التقليد الذي هو أساس هوية الأمة ورصيدها القيمي والمجتمعي.
في حين أن فكرة البناء غير المسبوق تؤدي حتماً إلى الفردية المنغلقة والاستبداد العنيف من أجل إخضاع المجتمع لأهواء الثوار الحالمين.
والواقع أن فرنسا عاشت منذ ثورتها إلى العصر الحاضر هذه الأزمة العميقة في البناء السياسي، والتي تبرز في تجارب المراجعة المستمرة للنظام السياسي والدستوري وفي الانتقال العاصف الدائم من بنية مؤسسية عمومية إلى أخرى.
ولقد استفادت كثيراً هذه الجزيرة المعزولة عن أوروبا من استقرارها السياسي ومسارها الإصلاحي التوافقي، فكانت مهد الثورة الصناعية وحركية التوسع البحري عبر العالم، ونجحت في أن تشكل أكبر إمبراطورية استعمارية لا تغرب عنها الشمس كما يقال.
ومن هنا ندرك أهمية النظام الملكي باعتباره رمز استمرار وصلابة التقليد الاجتماعي والتاريخي المحلي، وضمان وحدة المملكة التي تضم إلى جانب انكلترا أقاليم اسكتلندا وويلز وايرلندا الشمالية.
وعلى عكس ما يعتقد، ليست سلطة الملك في بريطانيا شرفية أو رمزية، بل هي جوهرية ومؤسسة في النظام السياسي، حتى لو كانت خارج مركز القرار الإداري والتنفيذي.
ولقد عالج منزلة المؤسسة الملكية في النظام السياسي البريطاني في نهاية القرن التاسع عشر الاقتصادي والقانوني «والتر باجوت»، في كتابه حول «الدستور الإنجليزي»، مميِّزاً بين «سلطة المجد» و«سلطة الفعل». فالنظام البريطاني هو حصيلة التقاء السلطتين وتداخلهما ضمن دوائر مؤسسية مركبة ومتضامنة، حيث تؤدي الملكية دوراً محوريا في الشرعية الرمزية والتقليدية للدولة بما فيها جوانبها الدينية والقيمية، في الوقت الذي تتولى الحكومةُ التنفيذيةُ القرارات الإدارية العملية.
ومع أن الملك لا يتدخل في الصراع السياسي اليومي، بل يلتزم الحياد الكامل في الحياة العامة (كما كان شأن الملكة إليزابيث بخاصة)، فإنه وفق الأعراف الدستورية البريطانية هو رئيس الدولة؛ يعين رئيس الحكومة ويحل البرلمان، وله دوره الأساس في تعيين الأساقفة بصفته رئيس الكنيسة القومية، وفي تعيين السفراء وممثلي البلاد في الخارج.
ومما يجدر التنبيه إليه هنا أن الملكية البريطانية، على عكس بلدان أوروبية أخرى، تندرج في عمق الهوية السياسية للأمة، وتشكل مرتكزاً أساسياً من مرتكزات النظام السياسي.
ومن هنا ندرك الشعبية الواسعة التي تتمتع بها بل حالة الإجماع الوطني الحقيقي حولها. وقد لا يتمتع الملك الجديد تشارلز الثالث، الذي ورث العرش في سن متقدمة (73 عاماً)، بقبول وشعبية والدته، لكنه لن يواجه إشكالات كبرى في الحكم على الأرجح.
صحيح أنه يرث أوضاعاً سياسية واقتصادية متأزمة بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبعد حرب أوكرانيا الأخيرة، كما أنه سيواجه مصاعب تفكك رابطة الكومنولث التي يرأسها شرفياً واستقلال عدد من الدول الخمسة عشرة التي ما يزال مَلِكَها اسمياً، مع تصاعد ميول استقلالية داخل المملكة المتحدة نفسها (إقليم اسكتلندا على الأخص).
إلا أن التجربة التاريخية، أثبتت أن قوة بريطانيا تكمن في صلابة تقليدها التاريخي والمجتمعي الذي تشكل الملكيةُ مرتكَزَه الأساسي.
* د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني
المصدر: الاتحاد – أبوظبي
موضوعات تهمك: