الشرق الأوسط أعلى مناطق العالم في عدم الاستقرار السياسي والاستبداد وعدد الحروب الدولية والأهلية التي شهدتها الفترة من نيكسون إلى بايدن.
قد يحاول بايدن تخفيف المماحكات بين السعودية وقطر والإمارات بهدف تعزيز دور كل منها في استراتيجية بايدن فتعاونها لتسهيل أداء كل منها لدوره مفيد أميركيا.
لا تجهل الأنظمة العربية ما يريده الأمريكيون لكن التغلغل الأمريكي في بنيتها سياسيا واقتصاديا واستخباريا جعل أغلبها على قناعة تامة بأن مصيرها بيد “القَدَر الأمريكي”.
سيعدنا بايدن بالديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان لكنه جاء لمطالب محددة، ولن تجرؤ القيادات العربية أن تواجهه بل ستنفذ مطالبه بتمويهات وتصريحات متضاربة تزيد الجمهور متاهة.
سيؤكد بايدن الأمن والمساعدات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتقنية لإسرائيل وتوسيع التطبيع العربي مع إسرائيل من السياسي إلى الاقتصادي فالعسكري ودمجه بالاستراتيجية الأمريكية.
هل تعيد الأنظمة العربية النظر بوعود أمريكا ومجاملاتها وهذا يعني مخاطرة ببقائها أو تواصل التغابي واجترار الآمال بان أمريكا جادة ويتواصل عدم الاستقرار واتساع الفجوة بين الشعوب وطغاتها؟!
* * *
بزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد يومين للشرق الأوسط يكون عدد الزيارات التي قام بها رؤساء الولايات المتحدة للشرق الأوسط منذ حرب 1967 ما مجموعه 37 زيارة، قام بها ثمانية رؤساء (3 جمهوريون وخمسة ديمقراطيون)، وفي كل زيارة كان الوعد بالسلام والديمقراطية في الشرق الأوسط هو شعار كل زيارة.
لكن الشرق الأوسط وخلال هذه الفترة كلها كان هو أعلى مناطق العالم في معدل عدم الاستقرار السياسي والاستبداد السياسي، وهو الأعلى بين أقاليم العالم في عدد الحروب الدولية والأهلية التي شهدتها الفترة من نيكسون إلى بايدن.
رغم كل ما سبق، فان الأنظمة السياسية العربية لم تفكر ولو مرة واحدة في إعادة النظر في الآمال التي ترافق كل زيارة لرئيس أمريكي، والسبب لا أنها تجهل ما يريده الأمريكيون!
بل لان التغلغل الأمريكي في بنية الأنظمة العربية سياسيا واقتصاديا واستخباريا بلغ حدا جعل من أغلب الأنظمة العربية على قناعة تامة بأن مصيرها السياسي بيد “القَدَر الأمريكي”، وإذا حاول أي منها التمرد فان الدرس العراقي والليبي وغيرهما سيعيده إلى رشده أمريكيا.
وها هو بايدن يعيد المشهد للمرة السابعة والثلاثين، وسيعدنا بالديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان والحيوان، لكنه جاء لمطالب محددة، ولن تشرب القيادات العربية حليب السباع لتواجهه بل سيتم تنفيذ ما يطلبه عبر تمويهات وتصريحات متضاربة تزيد الجمهور متاهة.. فلماذا جاء بايدن؟
أولا: ما جاء لوقف الاستيطان، ولا لإقامة الدولة الفلسطينية حتى لو وعد بها، ولا لإعادة اللاجئين، ولا لضمان تطبيق أي من قرارات الأمم المتحدة، ولا لتنفيذ اتفاقات أوسلو أو وادي عربة..
ثانيا: ما جاء بايدن لحماية حقوق الإنسان والتقصي عن موضوع الصحفي السعودي خاشقجي، ولا لتعزيز القانون الدولي بخصوص دماء شيرين أبو عاقلة، ولا لإسعاف الاقتصاد اللبناني، ولا لحل المعضلة السورية أو لبحث مصير هضبة الجولان..
ثالثا: جاء بايدن ليأخذ لا ليعطي، جاء يريد:
أ- التأكيد على استمرار ضمان الأمن والمساعدات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتقنية لإسرائيل، وسيعمل على توسيع فضاء التطبيع العربي مع إسرائيل ليمتد من التطبيع السياسي إلى التطبيع الاقتصادي فالتطبيع العسكري ودمج ذلك في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة التي تشمل:
إطالة عمر التواجد العسكري في سوريا والعراق، واستمرار توظيف الأكراد في تحقيق التفتت الجغرافي لكيانات المنطقة، وهو ما بدأت تتزايد ملامحه منذ قرار نقل تبعية إسرائيل من القيادة الأوروبية للقوات الأمريكية إلى القيادة المركزية التي تغطي منطقتنا كغطاء قانوني للدور الإسرائيلي في التداخل مع نشاطات المؤسسات العسكرية العربية.
ب- حشد ما تبقى من طاقات عربية لمواجهة ثلاثة أخطار تستهدفها الولايات المتحدة وهي:
1. إجبار دول الخليج تحديدا على المساهمة في تخفيف احتقان أسواق النفط والغاز الأوروبية تحديدا لضرب الاستراتيجية الروسية في حرب أوكرانيا، وستقبل هذه الدول الاستجابة طوعا او كرها ولكنها ستغلف الاستجابة بورق السوليفان.
2. زيادة الضغوط على إيران لإجبارها على تقديم تنازلات “نووية أولا” وإقليمية (تقليص مساعداتها لما يسمى محور المقاومة) ثانيا ودولية (ضبط الاندفاع الإيراني في اتجاه تنامي التنسيق مع محور بريكس وشنغهاي) ثالثا.
3. التحضير مع دول الخليج لكيفية التعاطي مع السياسة الصينية لا سيما أن موضوع تايوان سيمثل الجبهة الجديدة التي ستواجهها أمريكا قريبا بعد أوكرانيا، إلى جانب محاولة عرقلة مشروع الحزام والطريق العابر للمنطقة العربية برا وبحرا.
4. محاولة لجم بعض التوجه العربي نحو سوريا أو توظيف هذا التوجه باتجاه المطالب الإسرائيلية .
رابعا: جاء بايدن من دولة تتراجع إمكانياتها للاستمرار في نهج “التمدد الزائد” كما وصفه بول كينيدي، لذا سيسعى بايدن إلى الاتكاء على “حاتم الطائي” للمساهمة في تخفيف أعباء ذلك التمدد لا سيما مع تنامي ارتفاع الأسعار والتضخم وسيطرة الصين على مساحة واسعة من التجارة مع الشرق الأوسط ، إلى جانب أعباء الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة والتي لا بد ان يساهم حاتم الطائي فيه بقدر اكبر.
خامسا: قد يعمل بايدن على محاولة تخفيف المماحكات بين السعودية وقطر والإمارات العربية بهدف تعزيز دور كل منها في استراتيجية بايدن ( الدور القطري في دبلوماسية الإنابة، والدور الإماراتي في تعزيز التطبيع مع إسرائيل، والدور السعودي في الشأن العربي الأوسع)، وتعاون هذه الأطراف لتسهيل أداء كل منها لدوره أمر مفيد للولايات المتحدة، وقد تكون الحرب اليمنية احد مختبرات ذلك، فتقوم قطر بدور دبلوماسية الإنابة مع إيران ، بينما يشكل الطرفان الخليجيان الآخران ادوات الضغط على القوى اليمنية المتصارعة.
سادسا: لا شك أن للزيارة دوافع براغماتية ذاتية وشخصية وهي تعزيز فرص نجاح الديمقراطيين في الانتخابات التشريعية النصفية في نوفمبر القادم، من خلال تحقيق بعض الإنجازات في السياسة الخارجية لعلها تغطي على بعض ثغرات الوضع الداخلي الأمريكي.
مرة أخرى، 37 مرة وعد الرؤساء الأمريكيون الذي زاروا المنطقة خلال الفترة من 1974 (أول زيارة لنيكسون بعد حرب 1967) إلى الآن (أي نصف قرن) بتحقيق السلام والديمقراطية.. وتعلم الأنظمة العربية أن أيا من هذه الوعود لن تتحقق، لكن مشكلة هذه الأنظمة هي وقوعها بين خيارين أحلاهما مر:
– إما أن تعيد النظر في وعود أمريكا التي لا تتجاوز وعود المجاملات وهو ما يتضمن مخاطرة من أن تزيحها أمريكا من الخريطة السياسية،
– أو تواصل التغابي وإعادة الآمال بان أمريكا جادة هذه المرة ويتواصل عدم الاستقرار واتساع الفجوة بين الشعوب وحكامها..
* د. وليد عبد الحي أستاذ العلاقات الدولية، باحث في المستقبليات والاستشراف.
موضوعات تهمك: