الأحداث الكثيرة والجذرية التي تترك أثرها في البشرية هي المرتبطة بالتاريخ البشري لأن التاريخ متحرك.
التاريخ مجال لا يمكن التنبؤ بمساراته اللاحقة وعدا أن الإمبراطوريات تنشأ وتنهض ثم تنحدر، فإنه لا يقين في العلوم الإنسانية.
إذا جمعنا الاقتصاد والقوة المسلحة والتأثير الاستراتيجي، فإن روسيا تحتل مكانة بارزة تقارع القوتين الأمريكية والصينية.
ما يحدث يشبه نتائج الحرب العالمية الثانية أو تفكك الاتحاد السوفياتي. «نحن نشهد نهاية الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية».
إذا كانت القوة العسكرية هي الأساس لقلنا إن الولايات المتحدة هي المهيمنة، لكن إذا قلنا الاقتصاد هو الأساس، فيمكن للصين أن تحتل المرتبة الأولى.
قال بلير إن حرب أوكرانيا أظهرت أن هيمنة الغرب تشهد نهاياتها والسبب صعود الصين لتكون قوة عظمى، بالشراكة مع روسيا وهذا يحدث للمرة الأولى منذ قرون.
التغير الجيوسياسي الأكبر سيأتي من الصين وليس من روسيا وأن كل ما يمكن أن يقوم به الغرب هو العمل على منع تحول الصين إلى قوة متفوقة عسكرياً.
* * *
بقلم: محمد نور الدين
ظهر بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفياتي يقين لدى بعض الفلاسفة الغربيين من أن صراع الحضارات قد حسم لصالح الحضارة الغربية، وأن التاريخ بسبب آحادية التفوق الغربي قد «انتهى».
قبل ذلك، عند الماركسيين، بعض أقوال كانت تعكس أن الخطاب الكلي المتكامل قد قاله كارل ماركس، وأن «البروليتاريا» ستنتصر على أعدائها الرأسماليين. وهكذا نجد نزعة الحسم بانتصار فئة على أخرى مهيمنة لدى معظم المفكرين.
لكن التاريخ ربما هو المجال الوحيد الذي لا يمكن التنبؤ بمساراته اللاحقة. فالأبحاث العلمية تكاد تكون الوحيدة التي لا يدخل الشك إلى نتائجها إلا بنسب قليلة.
لكن كل علم أو مجال يكون الإنسان طرفاً مباشراً فيه وفاعلاً فيه يخضع لقانون التغيّر البشري. إن أصعب العلوم تلك المتعلقة بالإنسان؛ لذلك نجد تلك الأحداث الكثيرة والجذرية التي تترك أثرها في البشرية هي المرتبطة بالتاريخ البشري؛ لأنه تاريخ متحرك. وما عدا أن الإمبراطوريات كافة تنشأ وتنهض ومن ثم تنحدر، فإنه لا يقين في العلوم البشرية.
عندما قال الغرب بنهاية التاريخ لم يكن ربما يتوقع أن الصين ستتحول خلال أقل من عشرين سنة فقط (وهذه مدة تكاد في علوم التاريخ لا ترى)، إلى ثاني قوة عظمى في العالم؛ بل ربما الأولى إذا طبّقنا معايير معينة على موضوع الهيمنة والتفوق.
فإذا كانت القوة العسكرية هي الأساس لقلنا إن الولايات المتحدة هي المهيمنة، ولكن إذا قلنا إن الاقتصاد هو الأساس، فيمكن للصين أن تحتل المرتبة الأولى. وإذا جمعنا الاقتصاد والقوة المسلحة والتأثير الاستراتيجي، فإن روسيا تحتل مكانة بارزة تقارع القوتين الأمريكية والصينية.
الجميع كان يرى قبل عشرين عاماً في الاتحاد الروسي قوة مترنحة، لكن الرئيس فلاديمير بوتين استجمع بلاده، وجعل منها قوة تقارع الغرب. وقد بلغت ذروة التحدي الروسي للغرب في الهجوم على أوكرانيا وقضم أراضيها، والضغط على الاقتصاد العالمي بما يعطي لروسيا تفوّقاً لا يزال قائماً.
النظريات الغربية حول أحادية السيطرة الغربية، ربما تحاول إخفاء وجهها الآن. وليس أبلغ من ذلك الاعتراف والمكاشفة المهمة التي قدّمها رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، مؤخراً، في أحد منتديات غربي لندن وفي لحظة دقيقة من الصراع الدولي.
قال بلير إن حرب أوكرانيا أظهرت أن هيمنة الغرب تشهد نهاياتها. والسبب صعود الصين لتكون قوة عظمى، بالشراكة مع روسيا. وهذا يحدث للمرة الأولى منذ قرون. وقال بلير، إن ما يحدث يشبه نتائج الحرب العالمية الثانية أو تفكك الاتحاد السوفييتي. وقال: «نحن نشهد نهاية الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية»، مشيراً إلى أن هذا التغير الجيوسياسي الأكبر سيأتي من الصين وليس من روسيا. ورأى بلير أن كل ما يمكن أن يقوم به الغرب هو العمل على منع تحول الصين إلى قوة متفوقة عسكرياً.
لسنا في وارد الحلول محل فلاسفة التاريخ لكي نقدّر أو نتوقع صورة المستقبل القريب أو البعيد. فالتاريخ يمر بمخاضات تبدو أحياناً جدية وأحياناً خادعة. فكم من حضارات سادت ثم بادت على القول الشائع.
وكم من حضارة لم يتوقع بُناتها أنها ستؤول إلى الانهيار فالاندثار التام، وليس فقط إلى الضعف والتراجع. ومن كان من الفراعنة يتوقع لحظة أنه زائل أو سيغيب نهائياً عن مسرح التاريخ.
لقد غابت إمبراطورية الرومان التي سادت ثلاث قارات. وغابت وتراجعت ووهنت إمبراطورية المسلمين بعد أن غادرت الأندلس. وها هي إمبراطورية ما سمي الحضارة الغربية الأمريكية الأوروبية، تسير إلى مصيرها المحتوم. الفارق بين إمبراطورية وأخرى هو طول عمرها. والدول مثل الفصول، يقول ابن خلدون، محكوم عليها بالذبول والزوال.
القانون الفعلي الوحيد في التاريخ هو أن كل صعود إمبراطوري يقابله انحدار طال الزمن أم قصر. و«نبوءة» توني بلير مجرد اعتراف من داخل إمبراطورية الغرب الأنغلوسكسوني نحو بدء عصر الصين ومعها روسيا، ومعهما كل الارتدادات الممكنة على نطاق أقل، ولا سيما في المنطقة العربية والإسلامية.
* محمد نور الدين كاتب لبناني
المصدر: الخليج – الدوحة
موضوعات تهمك: