النظام العربي الإقليمي.. كنت شاهدا
- النظام الدولى الجديد لا يهبط علينا من السماء وإنما تصنعه عقول وظروف وأسباب.
- تأكدنا من أن النظام الإقليمي العربي مُقبل على أزمات لن يكون أقلها شأنا وخطورة أزمات الهوية.
- تتغير صورة النظام الإقليمي ثم يتدهور مستوى أدائه عندما يختل توازن مكوناته الأساسية.
- يستمر التدهور ليصل الشيء نهاية عمره إذا تعمق خلل التوازن الداخلى لمكوناته إلى حد اللا توازن المطلق، أى الفوضى أو الانفراط.
بقلم: جميل مطر
صورة العرب هذه الأيام صورة أمة فى وضع الانتظار. أمة لا تعرف تماما أي بديل لمستقبلها تختار. لعلها ليست وحدها التى تظهر فى الصورة عاجزة عن تقرير مستقبلها، فالصور عديدة التى تظهر فيها أمم تقف عند مفترق طرق.
من هذه الصور صور راهنة للإنجليز بخاصة والأوروبيين عامة وصور لأمم إفريقية. بل هناك من الوقائع ما يشير إلى رجل فى أمريكا استطاع منفردا أن يخلق حالة ارتباك فى قصور حكم عديدة فى شتى أنحاء العالم.
أدى هذا الارتباك إلى أن أممًا كثيرة صارت تظهر لنا فى الصور مترددة ومتوترة، وأممًا أخرى تظهر فى وضع انتظار، تارة فى انتظار عقوبة وتارة فى انتظار تغريدته التالية.
المؤكد، أيا كانت الظروف والأسباب، هو أن العالم يمر فى حال الانتقال من نظام دولى انتهى عمره إلى نظام دولى جارٍ تحت الإنشاء. المؤكد لنا أيضا ــ نحن المهتمين بأحوال العرب ــ هو أن نظاما إقليميا عربيا جديدا جارٍ صنعه.
هنا أتفق مع اعتقاد ريتشارد هاس، المتخصص فى التخطيط السياسى وصنع السياسة الخارجية، في أن النظام الدولى الجديد لا يهبط علينا من السماء وإنما تصنعه عقول وظروف وأسباب.
صحيح هذا الاعتقاد، فنظام توازن القوى الذى هيمن على العلاقات بين الإمبراطوريات الأوروبية على امتداد القرن التاسع عشر نشأ كرد فعل حكومات أوروبا لمرحلة الحروب النابليونية.
اقرأ/ي أيضا: السعودية والإمارات: صراع العين والحاجب!
لكنه نشأ أيضا لأن ثلاثة من القادة الدبلوماسيين العظام، مترنيخ وتاليران وكاسلريه، تصادف وجودهم. هم الذين أبدعوا وخططوا لمؤتمر فيينا، المؤتمر الذى أثمر نظاما دوليا استمر حتى اشتعال الحرب العالمية الأولى.
هذه الحرب العالمية التى نشبت عندما توقف النظام الدولى عن العمل.
* * *
بالمثل لم يهبط علينا النظام الإقليمى العربى من السماء. إنما نضجت ظروف وتوافرت أسباب ووجد قادة سياسيون شعروا بالحاجة إلى شكل إقليمي يرسم حدود العرب.
حدود ذاب أكثرها فى حدود أمم أخرى خضعت جميعها كما خضع العرب لإمبراطورية عثمانية طويلة العمر واستعمار أوروبى ورثنا ضمن ما ورثه من أملاك هذه الإمبراطورية المنهزمة فى الحرب.
وبالفعل عشنا نحن العرب لما يقرب من ثلاثة أرباع قرن، وربما للمرة الأولى داخل نظام حدوده صارت معروفة ليس فقط لأهل النظام الإقليمى الجديد ولكن أيضا للعالم الخارجى ممثلا فى نظام دولى جديد ظهر متلازما مع ظهور النظام الإقليمى العربى.
* * *
جيلى ــ وكان طفلا وقت نشأة النظام الإقليمى العربى ــ عاش شاهدا. كان طفلا وشابا ثم مواطنا فى أواسط العمر وشيخا. عاش شاهدا على مراحل نشأة النظام العربى وشموخه ومراحل اضمحلاله وانحساره.
شعرنا باقتراب نهايته عندما اكتشفنا أن حدود النظام عادت تذوب فى حدود أمم وشعوب أخرى وعندما شعرنا وتأكدنا من أن النظام الإقليمى مُقبل على أزمات لن يكون أقلها شأنا وخطورة أزمات الهوية.
كنا شهودا فى مراحله الأخيرة على تقتير فى المال والاهتمام والرعاية من جانب حكومات الدول الأعضاء لمؤسسات النظام ونقص فى تبجيل أهدافه وأسباب وجوده.
كنا نعرف، وهكذا لقَّنونا، أن الشيء يبدأ فى الاضمحلال عند ما ينتهى دوره أو عندما يفشل فى أداء وظائفه. هذا الشيء إن لم يعد مفيدا قرر أصحابه تصفيته بالاستغناء عنه أو البحث عن بديل يقوم بوظائفه. كنا شهودا.
اقرأ/ي أيضا: السلطة الدينيّة أعلى..
تعلمنا أيضا، أن هذا الشيء، وفى حالتنا هو النظام الإقليمى، تتغير صورته ثم يتدهور مستوى أدائه عندما يختل توازن مكوناته الأساسية.
يستمر التدهور ليصل الشيء إلى نهاية عمره أو صلاحيته إذا تعمق الخلل فى التوازن الداخلى لمكوناته إلى حد اللا توازن المطلق، أى الفوضى أو الانفراط. هنا أيضا كنت شاهدا.
* * *
عرفنا من خلال متابعتنا لتطور النظام الدولى الذى انبثقت فكرته خلال سنوات الحرب العالمية الثانية واستمر معنا حتى عهد قريب، عرفنا أن النظام الإقليمى مثله مثل النظام الدولى يمكن أن تفشل مؤسساته وأجهزته عن التأقلم مع تغيرات العصر في السياسة والتكنولوجيا وأساليب الحرب وأدواتها وفي الاقتصاد فيتدهور أداؤه.
في حالتنا تحديدا حدث أنه بالإضافة إلى أن النظام الذى لم يستوعب بالكفاءة والسرعة اللازمتين التحولات الإقليمية والعالمية فشل أيضا فى التعامل مع التدهور المتسارع في قوة وفاعلية إرادات الدول الأعضاء تحت وقع ضجيج العولمة وضغوطها وفجائية التحولات السياسية والاقتصادية الدولية.
وقتها مثلا انتصب الكائن الكامن فى أرض الصين عملاقا أو قل، كما قالوا، فراشة إن هفهفت بجناحيها هبت رياح وتدفقت المياه فى الأنهار. أهلكت بشرا وأحيت بشرا.. كنت شاهدا.
* * *
تشير تجارب النظام الدولى إلى أن النظام يمكن أن يتدهور لو لم يتسلح بالمرونة التى تسمح بانضمام أعضاء جدد. كانت الصعوبة التى واجهت محاولات ألمانيا واليابان الانضمام والاستفادة بالمزايا الاستعمارية التى كفلها النظام القائم وقتذاك لأعضائه سببا رئيسا فى تدهور النظام ثم سقوطه ونشوب حربين عالميتين.
اقرأ/ي أيضا: تراجع فسحة «الإنسانية» تزكية للفساد والاستبداد
كذلك كانت الصعوبة التى واجهت العراق للارتقاء بالمكانة داخل النظام العربى سببا مباشرا آخرا فى تدهور النظام الإقليمى العربى ونشوب حربين عطلتا نمو النظام وربما إيقافه عن أداء وظائفه.
من ناحية أخرى كانت مرونة النظامين الدولى الحديث والإقليمى العربى فى إرساء قواعد انضمام أعضاء جدد سببًا من أهم أسباب استمرار بقاء النظامين فترة طويلة وعدم انفراطهما مبكرا رغم تعرضهما لأزمات حادة، مثل أزمتي برلين والصواريخ الكوبية فى حال النظام الدولى وأزمتى الحرب الباردة العربية وهزيمة 1967 فى حال النظام الإقليمى العربى.
التدهور الفعلى للنظام الدولى بدأ مع انهيار الاتحاد السوفييتى ثم تفاقم مع مأساة الغرب فى حربه ضد العراق، أما التدهور الفعلي للنظام العربي فبدأ مع فقدان عدد مهم من الدول العربية حاجتها إلى النظام ومؤسساته، وبخاصة فى أعقاب فشل النظام الإقليمى العربى منع غزو العراق. كنت شاهدا.
* * *
قرأنا فى كتب التاريخ القديم والمعاصر أن الثورات الشعبية، كبرت أم صغرت، لم تؤثر جذريا فى مسيرة النظام الدولي القائم. ثورتا 1830 و1848 لم تضعفا أو تقللا من كفاءة نظام توازن القوى في أوروبا وهما إن خلفتا تأثيرا ملحوظا فهو المزيد من قوة فى إرادة أنظمة الحكم وفي أجهزة القمع الداخلى فى دول النظام أو في بعضها على الأقل.
لاحظنا كذلك أن ثورة 1968 فى فرنسا وثورتى براج وبودابست لم تؤثر أى منها جذريا فى أداء وفاعلية نظام القطبية الثنائية السائدة وقتذاك ولا فى كفاءة أجهزة النظام ومؤسساته.
لاحظنا أيضا أن ثورات الربيع لم تحدث تغييرا فوريا يذكر سواء فى وقف تدهور النظام الإقليمى العربى أو حتى إبطاء سرعة تدهوره. ما حدث وله مغزاه هو أن دولا صغيرة أعضاء فى النظام ولم تكن فاعلة فيه أو مؤثرة انتهزت الفرصة وراحت تتدخل بتكلفة مادية باهظة ونتائج هيكلية هزيلة.
واحدة منها أظن أنها حاولت اختطاف الجامعة العربية باعتبارها أهم مؤسسات النظام العربي ونجحت لفترة قصيرة قبل أن تنهض دول أخرى لمعاقبتها.
يذكر أن هذه الدول التى تولت مسئولية فرض العقاب على عضو اعتبرته متمردا لم تنهض تحت علم الجامعة العربية ولم تفرض عقوباتها باسم النظام الإقليمى العربى، وكنت شاهدا.
* * *
الأسباب كثيرة وراء نشأة وتدهور وانفراط النظم الدولية والإقليمية. من هنا صعوبة التوصل إلى بدائل وحلول لوقف التدهور وإلى تصور لشكل نظام دولى أو إقليمى يأتى فى المستقبل القريب.
اقرأ/ي أيضا: التركة السورية في صراع القوى الدولية
أما إذا طلب منى اختيار ظرف أو سبب معين أميل إليه أكثر من غيره كعنصر من عناصر الأساس فى نشأة نظام بعينه أو منع استمرار تدهوره فسوف أختار بلا تردد عنصر الدبلوماسية.
أقصد بها تحديدا وجود عدد من الشخصيات الواعية وصاحبة الخبرة الواسعة فى العمل الدولى أو الإقليمى المشترك والمتاحة لها تفاصيل وتجارب قيادات دبلوماسية أدلت بدلوها فى تطوير الدور السياسى لأوطانها.
أذكّر فقط بقيادات دبلوماسية من هذا النوع وجدت أو تصادف وجودها عند نشأة نظام مؤتمر فيينا وعند التفكير فى نظام دولى قرب نهاية الحرب العالمية الثانية وعندما خرج إلى الوجود نظام عربى أفرز بعد قليل جامعة الدول العربية فى أواخر الحرب ذاتها.
هناك الآن على الصعيد الدولى يجرى التفكير بمراكز البحث في مدى صلاحية المكونات الراهنة ليقوم على أكتافها نظام دولى جديد، وهنا فى عالمنا العربى يكاد نظامنا العربى ينفرط ولا سعي جرى أو يجرى لوقف الانفراط وجمع المكونات المناسبة لنظام عربى جديد.
غائبة فى الحالتين عناصر ومكونات عديدة أخص بالذكر عنصر القيادات الدبلوماسية التاريخية والخلاقة.
* جميل مطر مفكر مصري مهتم بالعولمة والشؤون الدولية والإصلاح، مدير المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل.
المصدر: الشروق – القاهرة
عذراً التعليقات مغلقة