عالمنا يعيش أسوأ أيام الفحش الذي عاشته البشرية بالنسبة للتعبير الفني، بكل أشكاله، لعلاقات الحب الجسدي.
نقاش حاد وتباين وجهات نظر واسع أظهر المجتمعات العربية بحالة انتقال من ثقافة تاريخية مهيمنة، إلى ثقافة جديدة يريد لها البعض أن تهيمن.
تبين أن المنخرطين يناقشون مواضيع شتى: البعض كان همه الأخلاق العامة وبعض آخر همه الجوانب الدينية البحتة، أو الجوانب الفنية.
* * *
بقلم: علي محمد فخرو
النقاش الحاد الذي جرى عبر الأرض العربية كلها حول فيلم “أصحاب.. ولا أعز”، والتباين الواسع المتناقض التصادمي بين وجهات النظر، أظهر أن المجتمعات العربية هي بالفعل تعيش حالة الانتقال من ثقافة تاريخية مهيمنة، إلى ثقافة جديدة يراد لها من قبل البعض أن تهيمن.
حسناً، لا توجد مشكلة في هذه الظاهرة، إذ أن كل الثقافات العامة السائدة في كل المجتمعات، خضعت وتخضع للتغيير والتطوير الدائم، لكن ذلك يحتاج أولاً إلى تحديد موضوع النقاش.
كانت النقاشات التي قرأناها وسمعناها تبين أن المنخرطين فيها يناقشون مواضيع شتى، وليس الموضوع نفسه، البعض كان همه الأخلاق العامة، والبعض الآخر كان همه الجوانب الدينية البحتة، بينما اقتصر اهتمام البعض على الجوانب الفنية.
لذلك كان القارئ والمستمع يشعران أحياناً بأنهما كانا أمام حوار الطرشان، خصوصاً في التباينات الهائلة حول موضوع الحرية، الذي هو من أكثر المواضيع الفلسفية المختلف حولها عبر تاريخ البشرية كله.
النقطة التي يجب أن ننطلق منها، هي أننا أمام عمل فني، فاذا أخذنا ما قاله الفيلسوف اليوناني أرسطو عن الفن:
“إن هدفه ليس التعبير عن ظواهر الأمور، وإنما عن مدلولاتها الداخلية” الخفية، أو إذا أخذنا ما قاله الكاتب جيمس بلدوين، “هدف الفن هو طرح الأسئلة في صورتها العادية، التي كانت متخفية في شكل إجابات”، أو حتى إذا أخذنا ما قاله جورج براغ: “الفنون هدفها الإزعاج، بينما العلوم هدفها التطمين”..
إذا أخذنا مثل هذه المقولات فإننا سنجد أن الفيلم المذكور قد حقق كل ذلك. لكن، وفي الحال، من حقنا أن نطرح سؤالاً حول الصراحة الفنية التي عبرت عنها بعض مواقف الفيلم، من خلال التذكير بقول لوليم بليك، “الحقيقة التي تقال بنية سيئة تفوق كل الأكاذيب التي يمكن أن يخترعها الإنسان”.
وهنا تختلط الحقيقة بالظنون والنيات، وهنا يستطيع منتجو الفيلم التعلل بما قاله أوسكار وايلد، “ليس على الفنان أن يكون من المحبوبين جماهيرياً، وإنما على الجمهور أن يكون أكثر فهماً لمتطلبات الفن”، وهذا سيدخلنا في الحال في دوامة الشعارات الشهيرة، مثل هل “الفن للفن؟” أم “الفن للأخلاق والأهداف السامية؟”..
ذلك أن أكثر ما اعترض عليه الكثيرون هو الغموض في موقف الفيلم من بعض القيم الأخلاقية والدينية بشأن العلاقات الجنسية في المجتمع العربي. وهنا نرجع إلى أوسكار وايلد مرة أخرى، فحسب فهمه للموضوع الشائك، “أن حياة الإنسان الأخلاقية تكون جزءاً من اهتمامات الفنان (والفن)، ولكن أخلاقية العمل الفني هي في الاستعمال الأفضل لحقل يتميز بالنواقص (في قدرته على التعبير)”.
هنا من حقنا أن نعتب على منتجي الفيلم على أنه كان من الواجب أخذ ما عبر عنه مثلاً أوسكار وايلد وغيره بشأن موضوع ترابط الأخلاق بالفن. وهنا نذكرهم بما قيل عن قصة “مدام بوفاري” الشهيرة وهو أن “كتاب مدام بوفاري كان من أكثر الكتب التصاقاً بموضوع الجنس، وكانت بطلته مهووسة بالجنس، ومع ذلك لن تجد في الكتاب كلمة يمكن اعتبارها بذيئة أو منحطة”، إذن كان من الممكن تجنب الوقوع في فخ البذاءة مثلما فعل مؤلف كتاب “مدام بوفاري”.
أخيراً، دعنا نكون منصفين: لو أن الفيلم نفسه عرض في الخمسينيات أو الأربعينيات من القرن الماضي لما أثار ضجة. آنذاك لم يصل العالم فيه إلى المستوى المنحط البذيء الشاذ، الذي وصلت إليه في أيامنا التي نعيش مواضيع الحب والعلاقات الحميمة ما بين الرجل والمرأة.
فعالمنا يعيش أسوأ أيام الفحش الذي عاشته البشرية بالنسبة للتعبير الفني، بكل أشكاله، لعلاقات الحب الجسدي. هوليوود تقود ذلك والآخرون مع الأسف يتبعون بقصد أو من دون قصد، والموضوع مرتبط بوضع حضارة إنسانية مرتبكة وفي أزمة قيمية كبرى.
* د. علي محمد فخرو سياسي ومفكر بحريني
المصدر| الشروق المصرية
موضوعات تهمك: