اللاهوت الصهيونى بين الاحتيال والخداع والتلفيق: تبرير القتل والسرقة والنهب.. يحمل هذا اللاهوت العنصرى بداخله سيرورة مستهدفة ذات آليات جاهزة تسعى لبلوغ أهدافها بإرادة ونية مسبقة معتمدة على إنغراسها فى تنفيذ الغير أخلاقى وغير المشروع كسلوك واجب وحتمى وقطعى ومقدس وتحظى بالشرعية والقبول والتشجيع على استمرار مماراساتها على حساب الأغيار ، وقد ” كان كهنة التوراة على عكس كهنة مصر وبلاد الرافدين الذين جعلوا آلهتهم تتناسب وواقعهم فتساعدهم على تنظيم حياتهم من رى وزراعة وسوى ذلك … ومن أجل ذلك أقاموا لها الطقوس كى تستمر المساعدة ، لكن كهنة التوراة .. بحثوا عن إله يتمسكون به ليعلقوا عليه كل إحباطاتهم على مشجب عصيانه ” (1) وجرائمهم ضد الإنساني،، وهم فى بحثهم ذاك وعصيانهم هذا، سطوا على ما قابلهم من أحداث ووقائع وتاريخ وعادات وتقاليد وثقافة وعقائد وأساطير فضلاً عن سطوتهم على الأمتعة والدور والمحاريب والذهب والفضة وحاولوا أن يشكلوا من كل هذا سرد ينسخ ما امتلكته الأمم المتحضرة من تاريخ وحضارة وثقافة فتبدو هذه الأمم وقد انحلت علاقاتها مع التاريخ.
وبانت كأنها هى التى تعيش حياة قبائلية تائهة، فى الوقت الذى تبدو فيه هذه القبائل التائهة المشردة وكأنها هى الأمم المتحضرة المستقرة، وذلك من خلال سرداً إحلالياً يحاول الكتبة به أن يوجدوا الترابط بين الأحداث المنهوبة والوقائع المسطو عليها والثقافة التى تم سلبها من مصادرها، وأن يوجدوا التعليل والارتباط بين تتابعات مزعومة ليظهر كل ذلك وكأنه ماض حقيقى يعيه الإنسان وكأنه يتولد من خلال حركة اجتماعية متطورة لسلوك شعب متوحد له خصوصية فى وجوده التاريخى المزعوم ، وكأنه ناتج عن حصيلة التفاعل بين الأجيال المتعاقبة والمتفردة فرادة تمييزها عن الآخرين والتى تميزت ـ كما تزعم ـ فى ثباتها الذى أطلقته مع الإله منذ الأزل فتوحدا معاً ، وسار التاريخ لكليهما ، واحداً وسائراً إلى نهايته المسيانية . من هنا يكون ويشكل لاهوت الاحتيال والخداع الأكذوبة الكبرى فى دوافعها ونوازعها ومبرراتها ومحركاتها والتى تشكل أليات اختلاق أسباب التبرير والتعمية والتغطية والمحو والاقتلاع والسرقة والنهب وكل ما عرفته البشرية من أساليب إجرامية واساليب غير أخلاقية.
وهذه الأكذوبة الكبرى اللاهوت الصهيونى لم تكن المسألة مجرد اقتباس من تاريخ ما وحضارة ما وإنما كانت عملية نهب واسعة ومنهجية موسومة بالألوهية ، تهدف إلى تبرير دعاوى ومزاعم التفوق العنصرى، لا منطق يجمع بين ما نهب سوى إله يتميز بالتحايل والمساومة، رئيس عصابة يدعو إلى السرقة، كثيراً ما ينسى، ذليلاً لشعبه ، فى كافة التصرفات ، ليس معصوماً من الخطأ، يقسم أقساماً كثيرة غير قانونية ، ولا يدعى أنه عالم، متعصباً لشعبه متعطشاً للدماء ، غيور، يمارس اللعب والمصارعة ، يتساوى مع عزازيل ( الشيطان)، وأن سكناه وسط شعبه أفضل من سكناه فى الجبل ، كثير الكلام ، يعشق الخطب الطوال ثم هو فى النهاية صار واحداً من الشعب ، وبهذا يصبح التاريخ اليهودى هو تاريخ الأفراد وقد اختلط بتصرفات الإله خلطاً وتخليطاً ، ومعبراً ضمنياً وتصريحياً عن صراع عدائى مع الآخر الذى يمقته ويهدف إلى إيقاع الأذى الدائم به بغية تأكيد وجوده التاريخى المزعوم ومن خلال هذا الصراع العدائى الذى يدعى فيه كذباً تفوقه المستمر يكون الغش والحيلة والمكر هى أولى الخصائص البنائية للاهوت الاحتيال والخداع والمكر والخديعة.
فالذى تسمت القبائل الإسرائيلية باسمه ونسبت إليه (إسرائيل) قد خدع أباه وخدع أخاه بأكلة عدس وسلب حقه فى الإرث وسلب له الإله مواشى خاله لابان ورحل سراً مع بناته اللاتى تزوج بهن واعترف لزوجاته قائلا ً: ” قد سلب الإله مواشى أبيكما وأعطانى ” وطالبه الرب بالرجوع إلى عشيرته مع وعده بأنه سوف يكون معه وملاك الإله يبشره بذلك ووافقته زوجتاه على ذلك ” إن كل الغنى الذى سلبه الإله من أبينا هو لنا ولأولادنا فالآن كل ما قال لك الإله أفعل ” (تكوين 31 : 16) ، فالإله ويعقوب متساويان فى الفعل و” هذا هو الجد البطل الذى ينسب إليه بنو إسرائيل من ناحية الاسم أو من ناحية الدم … والذى تربى فى أحضان أمه التى علمته خديعة الأب فى حادثة خداع زوجها وعيسو فإذا كان يعقوب قد سلب أخاه الأكبر حقه ، فإنه لم يفعل إلا ما فعله أبوه اسحق من قبل ، ذلك أن اسحق كذلك كان إبناً أصغر وكان قد عزل أخاه إسماعيل من حقه فى وراثة أبيهما إبراهيم ، وهوالأسلوب الذى اتبعه يعقوب فى معاملته لأخيه وأبيه .. أتبعه بعد ذلك مع أبنائه وأحفاده ففضل يوسف على إخوته ” (2).
وكان هدف الكهنة المؤرخون والكتبة المقدسون من هذا الاحتيال والخديعة هو تلفيق وتزييف الحقائق لتعطى لنسل يعقوب الحقوق المترتبة على الميثاق الأبدى والعهد الإلهى له ولنسله من بعده ، ومبرراً لسلب حقوق الآخرين ، لتصبح الأرض التى تحيط به جميعاً له ولذريته من بعده وعدها له الرب بيت الإله (بيت إيل) وباب للسماء (راجع تكوين 28 : 16- 17) .
ويصير التلفيق في اللاهوت الصهيونى هو الخصيصة البنائية الثانية للاهوت الاحتيال والخداع ويعلق جيمس فريزر على حادثة بيت إيل هذه بأنها حكاية لفقها العبرانيون القدماء ليبرروا بها حلمهم القديم فى امتلاك هذه الأرض ليصبح وطناً قومياً لهم ذلك أن هذا المكان بعينه كان الكنعانيون سكان البلاد الأصليون يعبدون آلهتهم عنده ومهما يكن مصدر هذه الحكاية فإنها تخفى فى سطورها بقايا عبادات ومعتقدات قديمة، وعلى نفس المنوال يتم إدراج نسوة مشبوهات فى سلسلة نسب الملك سليمان وكذلك حتى يمكن القول : ” بأن الملك سليمان ليس فقط سليل بيت يعقوب (إسرائيل) ، وإنما هو بنفس القدر سليل بيت “عيسو” وأدوميت بل وهيث الكنعانى ومعنى هذا أنه الوريث الشرعى لملك كل تلك الأراضى ” (3) ـ على الرغم ـ كما لاحظ ليتش ـ أن التوراة تحرم الزواج بين اليهود وغير اليهود وخاصة فى سفر نحميا، تحريماً قطعياً ، ولكننا نجد ـ من ناحية أخرى ـ فى سلسلة نسب سليمان أن داود من أصل نصف مؤابى (أى غيرإسرائيلى) (4).
ولكن مع الرغبة فى إثبات الحق الشرعى فى السيطرة على الآخرين وإضفاء الشرعية على تصرفات النهب لتراث الآخرين ، تكون عمليات التلفيق داخل النص .
ثمة خصيصة بنائية ثالثة هى الإخفاء فنجد أى سفرى صموئيل يصمتان نهائياً على الآثار العسكرية والسياسية التى نجمت عن خسارة الإسرائيليين للحرب فى أفيق لكننا نستطيع بواسطة بعض الملاحظات الواردة فى أسفار التوراة الأخرى ، أن نستنتج أن الفلسطينيين قد استفادوا من انتصارهم فائدة كاملة فالقسم المركزى من البلاد كلها صار تحت سيطرتهم وتمركزت الحاميات الفلسطينية فى الكثير من المدن الإسرائيلية وقد استمر ذلك الوضع حوالى عشرين عاماً”.
ومما يلفت النظر أن سفرى صموئيل لم يتحدثا بكلمة واحدة عن مصير شيلوه عاصمة إسرائيل آنذاك. وأن القارئ المتعمق سيتنبه ، ولابد ، إلى حقيقة غريبة : لم يبق النبى صموئيل الذى خلف عالى فى المدينة المقدسة ، حيث وجدت خيمة موسى وتابوت الرب بل انتقل إلى رامتايم : إذن أى قدر كتب لشيلوه؟ ـ كما يسأل زنون كوسيدوفسكى ـ إننا نجد جواباً غير مباشر على هذا السؤال فى سفر النبى إرميا حيث نجد فى (إصحاح 7- آية 12) : ” لكن أذهبوا إلى موضعى الذى فى شيلوه الذى أسكنت فيه اسمى أولاً، وانظروا ما صنعت به لأجل شر شعبى إسرائيل”، و نجد تكملة لهذه النبذة من المعلومات فى مكان آخر من السفر نفسه (إصحاح26 : آية9) :”.. مثل شيلوه يكون هذا البيت وهذه المدينة خربة بلا ساكن”.
توضح هذه الآيات أن الفلسطينيين قد دمروا شيلوه ، التى انعدم دورها كعاصمة لإسرائيل، نهائياً لقد انحفرت تلك الحادثة فى ذاكرة الناس بعمق لدرجة أن أرميا يوردها بعد أربعمائة سنة كمثال على الغضب الربانى، أمـا الكهنة مؤلفو النص التوراتى فقد تستروا على الحادثة بمهارة إذ حولوا أذهان الناس القراء نحو موكب النصر الذى قام به تابوت الرب فى المدن الفلسطينية” (5)، وكأن التاريخ الإسرائيلى فى التوراة قد انقطع فجأة عند وفاة يوسف ثم يحدثوننا بعدها عن الحوادث المرتبطة بشخصية موسى وتقارب فترة الانقطاع التاريخى تلك الأربعمائة عام، فلماذا تغاضى مؤلفو التوراة عن ذلك الفراغ فى التاريخ الإسرائيلى ، قد يكون الأمر قد تم عن عمد وسابق تصميم حتى لا يتحدث أولئك المؤلفون عن فترة غير محمودة عند الإسرائيليين ، فبعد طرد الهكسوس قام فراعنة الأسرة الثامنة عشر بنقل عاصمتهم من أفاريس إلى موطنهم الأصلى فى طيبة وبقى الإسرائيليون فى أرض جاسام حيث عاشوا حياتهم الرعوية.
ولم يكن احد ليكترث بالرعاة البسطاء الذين يعيشون على الحدود بعيداً عن المركز السياسى الرئيسى للدولة ولم يكن أحد منهم ليفكر فى اضطهاد الإسرائيليين ، خاصة وان هؤلاء قد وقعوا شيئاً فشيئاً تحت تأثير الحضارة المصرية بل واعتنقوا طقوس وعبادة الآلهة المصرية، كما تدل بعض المعطيات الموثوقة ، فها يشوع بن نون يؤنب الإسرائيليين بالكلمات التالية: “وانزعوا الآلهة الذين عبدهم آباؤكم فى عبر النهر وفى مصر” (سفر يشوع أصحاح 24 : آية 14 ) (6) هكذا أخفى مؤلفو التوراة هذه الحقائق ليتفرد تاريخهم بمجده المزعوم ويتفرغ من آية تأثيرات خارجية قد تشوه مساره المقدس نافياً عن نفسه الذوبان الكامل فى الحضارات الموجودة آنذاك.
المراجع:
1) جان بوتيرو ولادة إله /التوراة والمؤرخ ، دار الحصاد للنشر والتوزيع، ترجمة : عبد الهادى عباس و جهاد الهواش ، دمشق ، الطبعة الأولى 1999 ص 8 .
2) الفلكلور فى العهد القديم جـ 2 ص 376 .
3) نفسه جـ 2 ص 298 .
4) نفسه جـ 2 ص 285 .
5) الأسطورة والحقيقة فى التوراة ص 276 .
6) نفسه ص 118.
موضوعات تهمك:
عذراً التعليقات مغلقة