الخلاف التركي الأميركي يقرأ ضمن سياقات تصدّعات العالم الكبيرة تصل نتائجها الأخيرة بعودة النفوذ الروسيّ وظهور التأثير الصيني، وصعود الفاشيات والعنصرية الغربية.
تشير بوصلة العلاقات بين تركيا وأمريكا إلى حالة من التوتّر غير المسبوق.
العنصر المستجد البارز في الأزمة بين البلدين كان إعلان وزارة الخزانة الأمريكية قبل أيام فرض عقوبات على وزيري الداخلية والعدل في تركيا على خلفية احتجاز القس أندرو برونسون، الذي تتهمه تركيا بارتكاب جرائم دعم لمنظمة «خدمة» التابعة للداعية المقيم في أمريكا فتح الله غولن، وحزب العمال الكردستاني، وهما تنظيمان تعتبرهما أنقرة حركتين إرهابيتين.
قائمة الخلافات بين أمريكا وتركيا طويلة، فهي تتعلق بمجمل العلاقات السياسية الخارجية للبلدين، كما أنها تتعلق، إلى حد كبير، بالشؤون الداخلية التركية، التي جعلها التحالف الطويل بين البلدين، على مدى سبعين عاما، شديدة التداخل والتأثير، ولكن من طرف واحد هو واشنطن.
ورغم أن نشوء الجمهورية التركية الحديثة، بقيادة مصطفى كمال (أتاتورك)، عام 1922 جاء على شكل اشتباك عسكريّ وسياسيّ هائل مع الغرب الذي كان يسعى بقوة كبيرة لاحتلال البلاد وتقسيمها، فإن خيار النخبة التركية لاحقا كان الاتجاه بقوّة نحو أوروبا والابتعاد عن آسيا.
وقد تمثّل ذلك، على مستوى النظام السياسي، في تبن متطرّف للنظام العلماني الديمقراطي (لكن تحت حراسة الجيش)، وفي عضوية منظمات مثل مجلس أوروبا وحلف شمال الأطلسي، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومجموعة العشرين، والسوق الأوروبية المشتركة، بل إنها حاولت منذ 2005 الانضمام الكامل للاتحاد الأوروبي.
أدّت محاولة الانقلاب العسكري الأخير في تركيا عام 2016 إلى تحوّل كبير في الوضع الداخلي، فلأول مرة في تاريخ تركيا الحديث يستطيع الشعب التركي وقواه السياسية منع المؤسسة العسكرية من كسر الإرادة الشعبية التي يعكسها التصويت الديمقراطي.
وأدى توجيه السلطات أصابع الاتهام إلى منظمة الداعية غولن المقيم في أمريكا، وإثارة الشكّ في سكوت واشنطن، وقوى غربية، عن هذا الانقلاب إلى صدع كبير بين البلدين، انضافت إليه تبعات الحدث السوري ودعم واشنطن للأكراد المعادين لأنقرة، واضطرار تركيا للتقارب مع روسيا.
ولم تقصّر النخب الإعلامية والسياسية الأوروبية في صب الزيت على الحريق المتصاعد وفي الضغط الكبير على أنقرة بأشكال شتى.
تعتبر بعض التحليلات تصعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبه مايكل بنس ضد تركيا في خصوص القسّ المحتجز محاولة للحصول على أصوات ولايات «الحزام الإنجيلي» في أمريكا خلال الانتخابات النصفية المقبلة في تشرين الثاني/نوفمبر.
ففي هذه القصة بعض عناصر الدراما الدينية اللازمة لذلك الجمهور الأمريكي حيث تحتجز دولة يحكمها حزب ورئيس إسلاميان قسا إنجيليا، وذلك لتعويض الخسائر المتوقعة لترامب على خلفيّة الفضيحة المستمرة للتدخل الروسي المستمر في الانتخابات، وهجمة الديمقراطيين والليبراليين الكبيرة لكسب مقاعد جديدة في الكونغرس، وانفضاض بعض اتجاهات اليمين العنصري عن ترامب.
لكن هذا الاستعمال الآني للخلاف في السياق الأمريكي لا ينفي الأسباب العميقة له بين البلدين، والذي يعود إلى عقود من النفوذ الأمريكي القويّ في المؤسسة العسكرية التركية.
كما يعود إلى التغيّرات الكبرى التي شهدها العالم بعد انفراط الاتحاد السوفييتي، وحدث الهجوم على برجي التجارة في نيويورك وما تبعه من اجتياح لأفغانستان والعراق، ودخول حقبة العداء للمسلمين والإسلام في العالم كبديل عن النزاع مع المنظومة الشيوعية السابقة.
هذه التصدّعات الكبيرة في العالم تكاد تصل إلى نتائجها الأخيرة مع عودة النفوذ الروسيّ بطرق أخرى، وظهور التأثير الصيني، وصعود الفاشيات والاتجاهات العنصرية في أمريكا وأوروبا، وقراءة الخلاف التركي ـ الأمريكي يجب أن تتم ضمن هذه السياقات كلها.
المصدر: القدس العربي