ما المقصود بالفقه الاستراتيجي؟ وما علاقته بأزمات الواقع العربي وبالعلوم الاجتماعية المعاصرة والإفتاء الحضاري؟
يهدف الفقه الاستراتيجي لرأب الصدع بين علوم الوحي بمختلف أبعادها وعلوم الواقع بتنوع معارفها وترسيم خرائط العلوم الإسلامية لإنتاج نماذج عمران متكاملة.
وما ارتباط الفقه الاستراتيجي بمرجعية النص وعلوم شرعية عريقة كأصول الفقه وعلم المقاصد؟ وهل التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الواقع هو المخرج لهشاشة العلم المعاصر والفقه الجزئي؟
* * *
بقلم: د. جمال الحمصي
ما المقصود بالفقه الاستراتيجي؟ وما علاقته بأزمات الواقع العربي وبالعلوم الاجتماعية المعاصرة والإفتاء الحضاري؟ وما ارتباط هذا الفقه بمرجعية النص وبعلوم شرعية عريقة مثل أصول الفقه وعلم المقاصد؟ وهل التكامل المعرفي بين علوم النص وعلوم الواقع هو المخرج لهشاشة العلم المعاصر والفقه الجزئي؟
وفي الواقع، تتصف الأدبيات المعاصرة لـ”الفقه الاستراتيجي” بأنها شحيحة للغاية ولا يُعرف من سَكَّ أولاً هذا المصطلح.
ومن باب أولى، ليس هنالك اتفاق حول طبيعة هذا الفقه الشامل ونطاقه ومنهجيته، سوى انه يقابل فقه الفروع. رغم ذلك، هنالك تداول في الأدبيات لعناوين قريبة مثل: الفقه الأكبر الذي يُعنى بعلم العقيدة والتوحيد وأصول الدين، وأيضاً فقه السنن الربانية في الحياة والوجود والإنسان.
وربما تشكل تقدمة هبة عزت وأحمد زايدة (2015) لكتاب “نحو عمران جديد” من أبرز ما كُتب ولو بلمحات موجزة عن الموضوع. تقول تلك التقدمة:
يهدف الفقه الاستراتيجي الى رأب الصدع بين علوم الوحي بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلوم الواقع بتنوعاتها ومعارفها، وإلى إعادة ترسيم خرائط العلوم الإسلامية لانتاج نماذج عمران متكاملة.
ويؤكد هذا العلم -حسب التقدمة- على التمايز بين منظورات العلوم الاجتماعية المعاصرة وفلسفتها الوضعية، وبين ما تحتويه العلوم الشرعية من رؤية توحيدية لسنن الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ وأوجه العمران.
تعريف مقترح
في المقابل، يُعرّف هذا الكاتب الفقه الاستراتيجي بكونه: علمًا شرعيًا تطبيقيًا عالي المستوى، ومتداخل التخصصات، يهتم بالتوجهات والأولويات الاستراتيجية، الأهم والأوسع أثراً، في تحقيق استدامة الأمة وعمرانها. فهو يضع، على مستوى الأمة ككل، الأسس الاستراتيجية والدعائم العقلانية للسياسة الشرعية بأوسع معانيها. وهو علم يستند الى مسلّمات أخلاقية وواقعية (وجودية) موضوعية ومنطلقات غير علمانية، بعيداً عن أثر اللغويات والتنميق اللغوي والخرافات والمعرفة الشخصية والتحيزات الفئوية.
الفقه الإستراتيجي لا يصدر فقط الحكم الشرعي التقييمي بناء على النصوص الجزئية والأدلة الكلية كما هو الحال مع الفقه وأصوله، وهو أيضاً لا يدرس الواقع ويحلل أسبابه الجذرية الكامنة فحسب كما هو الحال مع العلوم الاجتماعية المعاصرة.
وإنما يسعى أيضاً لإصلاح الواقع العربي بالاستناد الى نماذج وتقنيات موضوعية للمعرفة، بما فيها فقه السُّنن وفقه الموازنات. أما المنتجات المتوقعة لهذا العلم فتشمل تصميم سياسات ومؤسسات عليا، اقتصادية واجتماعية وسياسية، لمجتمع تشاركي وعادل.
معنى تعبير “الاستراتيجي”؟
لكن بماذا يتميز الفقه الاستراتيجي عن الفقه الفرعي؟ وماذا تضيف صفة “استراتيجي” الى الفقه الاستراتيجي؟
بإجراء مسح لأدبيات التفكير والتخطيط الاستراتيجي يمكن تلخيص السمات المرتبطة بصفة “الاستراتيجي” بأنها: متوجهة نحو المستقبل، وشمولية وتكاملية وطويلة المدى وبعيدة عن القضايا الروتينية أو الجزئية. وكذلك تتسم برؤية وغاية وفلسفة عامة، ونتائج قراراتها غير قابلة العكس بسهولة أو بكلفة يسيرة، وبالتالي تتضمن أيضاً مخاطر عالية وغموض كبير. وما هو استراتيجي أيضاً هو فاعل واستباقي ويمثل عملية مستمرة ويتضمن القدرة على التكيف مع الصدمات الخارجية والبيئة المتغيرة.
الفقه الإستراتيجي والرؤية التوحيدية للعالم
بينما تُفتقَد الغائية الموضوعية في النظرة الغربية للعالم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)؛ أيْ وجود غاية مُحدَّدة أو تصميمًا غائيًا ذكيًّا من خلق الكون والوجود والحياة على الأرض، فإنَّ النظرة القرآنية التوحيدية صريحة بشأن المقصد النهائي الثنائي من خلق الإنسان، والمتمثل في:
1- الغاية التعبُّدية والابتلائيّة.
2- الغاية الاستخلافيّة. قال تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات:56)، “إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة:30)، “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” (هود:61).
ويمكن النظر الى الغاية الاستخلافية باعتبارها غاية تابعة لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى بالمعنى الشامل، وهي تشمل عمارة الأرض وتحقيق مصالح العباد في الدّارين، حيث يتكامل المقصدان (إخلاص العبودية لله وحفظ دينه من ناحية، وعمارة الأرض وتحقيق الاستخلاف البشري من ناحية أُخرى).
فالحياة الطيبة في الدنيا إنَّما تتحقَّق بالهدى ودين الحق، ولا تتمُّ عمارة الأرض -برؤيتها الشاملة- إلَّا بمعرفة الخالق وتحقيق وظيفة المخلوق.
الفقه الإستراتيجي والقرآن الكريم
وكعلم مستقبلي واستشرافي، يستعين الفقه الاستراتيجي بقطعيات القرآن ودراساته وسننه وقوانينه الوجودية المُحْكمة للتأسيس لفقه المآلات من منظور معاصر، ومثال ذلك علم العبد الصالح الواقعي والمعياري تجاه الأحداث من حوله في سورة الكهف. الهدف هو تقصي الأسس العامة والعابرة للزمان والمكان في مجال الإصلاح المجتمعي على أسس من الاجتهاد المؤسسي والشورى (ذلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 2).
الفقه الإستراتيجي وعلم المقاصد وأصول الفقه
وقد يجد البعض في علم المقاصد الشرعية غايته، معتبرا هذا العلم الجديد القديم بمثابة دُرّة العلوم الشرعية، لكن وكما أقرّ أحد أبرز المخضرمين والمدافعين عن علم المقاصد الفقيه عبد الله بن بيّه فإن المقاصد العامة قد تكون حمّالة أوجه (مثال: العدل أو الحرية) وبالتالي فإن علم المقاصد -حسب رأيه- لن يستقل بتوليد الأحكام الشرعية الجزئية والكلية دون العودة الى علم أصول الفقه وأدلته الكلية القطعية، مما يبرز الحاجة الى اندماج المعارف الشرعية والى فقه تكاملي لإدارة الواقع المعقد والمعاصر بصورة حكيمة واستراتيجية.
الفقه الاستراتيجي علم وصفي أم معياري؟
في ضوء مقاصده التطبيقية، فإن الفقه الاستراتيجي هو علم معياري يدمج بين علوم النص المعياري من ناحية وبين علوم الواقع من ناحية أخرى، ويستعين بأهم ما تحويه علوم شرعية أساسية وأكثرها قطعية مثل: أصول الفقه، وفقه السُّنن الاجتماعية القرآنية، وفقه السياسة الشرعية، وفقه المآلات، وعلوم القرآن وعلم العمران وعلم مقاصد وأسرار الشريعة، وكذلك يستعين بآخر معطيات العلوم الاجتماعية المعاصرة في ميادين علوم السياسة العامة وتحليلها، والنظرية العامة للنظم، وعلوم الاقتصاد والاجتماع والإدارة العامة والسياسة وتخصصات بناء الدول والحوكمة الرشيدة والعليا والمُقَارنة.
ويفترض في هذا العلم المتكامل ان يدمج قضايا أساسية مثل الموارد والقيم والقوة والمؤسسات والحوكمة والرفاهية، وأن يوازن بين “النظام” و “التغيير”، دون ان يهيمن أي منهما على الآخر، مع التركيز على مصالح الأمة ككل، بمن فيها الأضعف والأقل موارداً في المجتمع.
الفقه الإستراتيجي والعلم التجريبي
وما علاقة الفقه الاستراتيجي بالدين والعلم التجريبي الحديث؟ تُحدد الشريعة بنصوصها الجزئية المُحكمة ومقاصدها العامة القطعية ماهية الغايات والأهداف والقيم الجماعية المستهدفة، في حين أن العلم بشقيه التجريبي والموحى به (كعلم السُّنن)، وفقه الواقع عموماً، هو الوسيلة لتحقيق المقاصد والقيم الشرعية.
فالعلم البشري لا يستطيع أن يحدد أي من الغايات أكثر قيمة بصورة مطلقة (المغالطة الطبيعية في النظرية الأخلاقية)، لكنه أداة فعالة للمساعدة في تحقيق غايات ومقاصد وقيم “معطاة” من خارج العلم. هذا هو باختصار أحد الأسس العقلانية للفقه الاستراتيجي، وإلا انطبقت علينا الآية: “وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ” (الجاثية: 23).
اما بخصوص الترابط بين الفقه الاستراتيجي والشورى (الديمقراطية) فهو من الأجندة البحثية الواعدة، الى جانب الجوانب التمويلية والترتيبات المؤسسية للفقه الاستراتيجي، علماً بأن الكاتب يفضل صيغة التمويل الوقفي لهذا العلم الغائب والهام.
*د. جمال الحمصي أكاديمي وباحث في الاقتصاد والاجتماع الإسلامي
المصدر: السبيل – عمان
موضوعات تهمك: