الغليان في بريطانيا!

محمود زين الدين13 أكتوبر 2022آخر تحديث :
بريطانيا

اعتبرت رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة أن المشكلة ليست في محتوى الرسالة بل فى طريقة توصيلها!
خطة رئيسة الوزراء البريطانية المالية من شأنها أن «تفاقم عدم المساواة الاقتصادية وتؤدى لارتفاع الأسعار».
الاقتصاد البريطانى لو ألمت به أزمة أكبر من التى يعانيها اليوم فستكون عواقبها وخيمة، ليس فقط داخل بريطانيا وإنما حول العالم.
أدت الضغوط الشديدة لإحراج ليز تراس حين اضطر وزير ماليتها إلى الإعلان عن التراجع عن الخطة مصحوبًا «بالتواضع وعميق الأسف»!
أعلنت تراس خطة مالية «مصغرة» تضمنت خفضًا ضريبيًا للشرائح الأعلى وزيادة إنفاق الحكومة فأطلق صندوق النقد الإشارات الحمراء ودقّ علنًا أجراس الإنذار.
* * *

بقلم: د. منار الشوربجي
لعلها سابقة نادرة الحدوث أن نسمع من صندوق النقد الدولى عبارات شديدة اللهجة تنتقد علنًا السياسة الاقتصادية فى دولة كبرى. وقد اعترف النائب السابق لمدير الصندوق بأن مثل تلك التصريحات غير مسبوقة، بالفعل، بالنسبة للسبع الكبار.
والحكاية أنه فور إعلان رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، ليز تراس، خطتها المالية «المصغرة»، والتى تضمنت خفضًا ضريبيًا يخص الشرائح الأعلى وزيادة فى الإنفاق الحكومى، أطلق صندوق النقد الإشارات الحمراء ودقّ علنًا كل أجراس الإنذار، مؤكدًا أن تلك الخطة من شأنها أن «تفاقم عدم المساواة الاقتصادية وتؤدى لارتفاع الأسعار».
بل ودعا الحكومة البريطانية قبل نشر الخطة التفصيلية فى أواخر نوفمبر القادم «لإعادة النظر» فيما تخطط له «خصوصًا الضرائب التى تتعلق بالشرائح الأعلى»!
والأطرف من التحذير كان مضمونه، إذ لم نسمع أن صندوق النقد كان يومًا معنيًا باتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، ولا حرَّك ساكنًا عند ارتفاع الأسعار فى الدول النامية!
وخطة رئيسة الوزراء البريطانية أدت فور إعلانها لتهاوى الجنيه الإسترلينى، ولقيام البنك المركزى البريطانى بالتدخل لشراء سندات الديون الحكومية، ثم أنذر حكومة تراس بأنه سيُضطر لرفع سعر الفائدة إذا ما استمر الانخفاض فى قيمة الإسترلينى، محذرًا من أنه لن يقف «مكتوف الأيدى» وسيضطر لإحداث تغيير جوهرى «فى السياسة النقدية لحماية الجنيه».
ليس ذلك فقط، بل قال المستشار الاقتصادى للبيت الأبيض أن «رد الفعل السلبى من جانب السوق لم يكن مفاجئًا»، بل وأعطى محاضرة للبريطانيين عن «ضرورة التركيز على الانضباط والترشيد المالى»!
والحقيقة أنه لا مفاجأة فى أن تلك السياسات البائسة تستدعى دقَّ كل النواقيس، وإنما المفاجأة أن تلك النواقيس دقّتها هذه المرة أطراف ساهمت فى السابق فى الترويج لتلك السياسات البائسة نفسها!
فما فعلته ليز تراس هو فى الحقيقة إعادة إنتاج النيوليبرالية ذاتها التى بدأتها مارغريت تاتشر فى بريطانيا، ورونالد ريغان بالولايات المتحدة. والفكرة التى تروج لها تلك الأيديولوجيا هى باختصار أنك إذا خفضت الضرائب على الشرائح الأعلى فى المجتمع فإن المستفيد ليس أولئك الأثرياء وحدهم.
فعوائد تلك الخطوة «ستتدحرج» لتعم باقى المجتمع فى صورة رخاء شامل، باعتبار أن خفض ضرائب تلك الفئة سيكون حافزًا لها على المزيد من الإبداع والاستثمار مما يخلق وظائف أكثر ويرفع مستوى الإنتاجية.
لكن الدراسات العلمية الرصينة التى أُجريت خلال العقود الماضية أجمعت على أن تلك الفكرة جيدة على الورق، ولكن المسح الواقعى لنتائجها يُثبت أن شيئًا لا يتدحرج، وأن تأثيرها الرئيسى هو أن يزداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرًا.
والحقيقة أن صندوق النقد الدولى علا صوته بالنقد هذه المرة لأن اقتصادًا كبيرًا مثل الاقتصاد البريطانى لو ألمت به أزمة أكبر من تلك التى يعانيها اليوم فستكون عواقبها وخيمة، ليس فقط داخل بريطانيا وإنما حول العالم الذى يعانى أصلًا بعد جائحة كورونا ثم حرب أوكرانيا.
وبينما عمت المظاهرات الشوارع احتجاجًا على ارتفاع الأسعار، ازدادت الضغوط على الحكومة، فاعترفت رئيسة الوزراء بأن «أخطاء ارتُكبت» عند كتابة الميزانية، لكنها أضافت أن «كل العملات» حول العالم تعانى، بل تمسكت بالخفض الضريبى، خصوصًا بالنسبة للأثرياء، قائلة إنه كان ينبغى لحكومتها أن «تمهد الأرض» قبل الإعلان عن ذلك الخفض الضريبى.
باختصار اعتبرت أن المشكلة ليست فى الرسالة ذاتها وإنما فى طريقة توصيلها! لكن الضغوط الشديدة أدت لإحراجها حين اضطر وزير ماليتها إلى الإعلان عن التراجع عن الخطة مصحوبًا «بالتواضع وعميق الأسف»!

*د. منار الشوربجي أستاذ العلوم السياسية المساعد، باحثة في الشأن الأمريكي

المصدر: المصري اليوم – القاهرة

موضوعات تهمك:

السفارة البريطانية في القدس المحتلة: فارق التهور والحكمة

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة