لقد اتخذ الغرب قرارات ضد روسيا باسم النظام الدولي، ولكن هل انخرطت دول العالم فيه؟!
يعيش العالم منعطفا هاما منذ السنوات الأخيرة وكانت البداية مع جائحة كورونا وتعاظمت مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
اختصر الغرب الأنجلوسكسوني النظام الدولي في لندن وواشنطن وتماهت معه وسائل الإعلام خاصة الأنجلوسكسونية التي لديها تأثير كبير في العالم.
استمرار استعمال تعبير “الغرب لن يقبل” و”النظام الدولي يرفض” يعكس شعورا مسبقا بالهزيمة وعدم المبادرة بالعالم العربي بينما تخلصت منها ثقافات سياسية أخرى.
مع حرب روسيا ضد أوكرانيا تراجعت قوة تعابير «الغرب يرفض» و«النظام الدولي يفرض» لأن العالم انقسم: الغرب؛ الصين وروسيا وتوابعهما؛ وأغلبية الدول فضلت الحياد.
أصابت الهشاشة تعابير “النظام الدولي” أو “الغرب يرفض” وتخلصت منها أمم وثقافات وآن أوان الواقعية السياسية بالعلاقات الدولية وتبدأ بـ”عالم متعدد الأقطاب” و”لم يعد الغرب يرفض أو يفرض”.
* * *
بقلم: د. حسين مجدوبي
اعتادت الصحافة الغربية والعربية بالخصوص ترديد تعابير ذات حمولة سياسية كبيرة، وإن كانت لم تعد تساير التطورات الجارية في المسرح السياسي العالمي، ومنها تعبيران هما: «الغرب لن يقبل» ثم «النظام الدولي يرفض» أو في صيغة أخرى «النظام الدولي سيفرض».
والواقع أن الاستمرار في استعمال مثل هذه التعابير يعكس الشعور المسبق بالهزيمة وعدم المبادرة لاسيما في العالم العربي بينما تخلصت منها ثقافات سياسية أخرى.
اعتادت وسائل الإعلام الغربية عند كل أزمة توظيف تعبير «النظام الدولي» لإبداء الرأي وكأنه إجماع حول بعض القضايا المطروحة في الأجندة الدولية وتستأثر بانتباه الرأي العام الدولي.
وهكذا نسمع «النظام الدولي يرفض»، في إشارة إلى قرار سياسي اتخذته دولة معينة ولا يرضي دولا في الغرب مثل حالة المشروع النووي الإيراني. ثم نجد «النظام الدولي سيفرض»، استعدادا لتبرير قرار ما سيتخذ في قضية هامة.
وعودة إلى الأحداث الدولية، سنجد في حرب العراق أنه جرى الإفراط في استعمال «النظام الدولي يرفض استمرار صدام حسين» أو «النظام الدولي سيفرض آلية نزع أسلحة الدمار الشامل»، في تلميح الى الحرب الاستباقية.
واستمرارا في أجواء الماضي، سنجد وقتها أن غالبية العالم كانت ترفض الحرب ضد العراق بما فيها دول من الغرب مثل فرنسا وألمانيا ودول شمال أوروبا دون الحديث عن الصين وروسيا ومعظم دول أمريكا اللاتينية.
لقد اختصر الغرب الأنجلوسكسوني النظام الدولي في لندن وواشنطن وتماهت معه وسائل الإعلام لاسيما الأنجلوسكسونية التي لديها تأثير كبير في العالم.
لم يكن هناك إجماع في العالم حول قضايا معينة، لكن هيمنة الولايات المتحدة على مجلس الأمن الدولي، في وقت كانت روسيا تستعيد أنفاسها وتلتزم الصين الباطنية أو التقية السياسية لبناء قوتها، علاوة على توظيف الغرب لآليات منها صندوق النقد الدولي كأداة للضغط، جعل الاعتقاد يسود بأن الغرب هو المنتظم الدولي.
وخلال الحرب الروسية ضد أوكرانيا، تراجعت قوة تعابير «الغرب يرفض» و«النظام الدولي يفرض» لأن العالم انقسم الى ثلاثة أقسام، الأول وهو الغرب الكلاسيكي، ثم الصين وروسيا وبعض الدول التي تدور في فلكيهما، بينما عشرات الدول، إن لم تكن الأغلبية، قد فضلت الحياد أو المشاركة في التصويت على قرارات غير ملزمة.
ويعود هذا أساسا إلى فشل الغرب في تجييش باقي الدول ضد روسيا رغم خرق موسكو للقانون الدولي بغزو دولة أخرى، عكس ما فعل في الحرب العراقية وباقي الأزمات الأخرى ومنها محاربة الإرهاب بعد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية.
لقد تخلص عدد من الدول والمناطق في العالم من هذا النوع من الثقافة بسبب تطورها الديمقراطي، حيث أصبحت تمتلك نسبة هامة من قرارها السيادي مثل أمريكا اللاتينية، أو دول تدافع عن استقلاليتها بقوة مثل تركيا وإيران وإندونيسيا. وتستمر هذه الثقافة أساسا في العالم العربي بما في ذلك في صفوف اليسار الراديكالي.
ويبقى السبب وراء استمرار هذه الثقافة السياسية الدالة على نوع من الخنوع وتصنيف الغرب وأساسا الولايات المتحدة بأنها القدر المحتوم الذي لا يمكن تجاوزه الى عاملين، وهما:
أولا، الاعتقاد وسط الطبقة السياسية والمثقفة والإعلامية بالعالم العربي في استمرار حماية الغرب وأساسا واشنطن للأنظمة العربية، وبالتالي لن يتغير أي شيء دون ضوء أخضر من البيت الأبيض.
وكان هذا الشعور مسيطرا بدوره في أمريكا اللاتينية غير أنه جرى التخلص منه تدريجيا وامتلكت شعوب المنطقة بشكل كبير قرارها السياسي، حيث يتمظهر ذلك في التناوب السياسي الأيديولوجي على الحكم ومحاكمة عدد من رؤساء الدول ثم الاستقلالية الكبيرة في السياسة الخارجية.
ثانيا، بسبب الواقع الذي فرضه الغرب وخاصة الأنجلوسكسوني في قضايا رئيسية شغلت الرأي العام العربي منذ عقود وهي معارضته الغريبة لحل الصراع العربي الإسرائيلي وخاصة قضية فلسطين، ثم الحرب التي شنها ضد العراق وخاصة الثانية سنة 2003 وملفات أخرى مثل تدخل حلف الناتو في ليبيا للإطاحة بنظام القذافي، وإزاحة الرئيس حسني مبارك.
وهكذا، نجد عند كل أزمة أو تطور في القضية الفلسطينية أو العربية يهرع المسيرون العرب الى واشنطن للحصول على الرضى أو الاستشارة. وعاش الرأي العام العربي خلال الأسبوع الأخيرة فضيحة حقيقية عندما سلمت السلطة الفلسطينية الرصاصة التي تم بها اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة الى الولايات المتحدة.
وهذه الأخيرة بحكم مراعاة توازناتها في الشرق الأوسط أفرغت القضية من محتواها السياسي والإجرامي الذي وضع إسرائيل في موقف حرج وخففت الضغط على تل أبيب بقولها إنه لا يمكن تحديد نوعية الرصاصة.
لم يكن هناك منتظم دولي بمعنى الكلمة في السابق إلا في حده الأدنى وفي حالات نادرة جدا، وعادة ما يكون تعبيرا عن رغبة الغرب. وبعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا وما حملته من تقسيم العالم وتأسيس عالم متعدد الأقطاب، لم يعد الغرب يمتلك القوة لكي يرفض واقعا أو يرفض واقعا في القرارات الدولية الكبرى إلا في عقول بعض السياسيين والمثقفين العرب أساسا. لقد اتخذ الغرب قرارات ضد روسيا باسم النظام الدولي، وعليه، هل انخرطت دول العالم فيه؟ بطبيعة الحال لا.
يعيش العالم منعطفا هاما منذ السنوات الأخيرة، وكانت البداية مع جائحة كورونا وتعاظمت مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا. ومن النتائج المترتبة عن هذه الأحداث هشاشة تعابير «النظام الدولي» أو «الغرب يرفض»، فقد تخلصت منها دول وثقافات، وحان الوقت للواقعية السياسية في العلاقات الدولية والتي تبدأ بـ «العالم متعدد الأقطاب والمواقف» و«لم يعد الغرب يرفض أو يفرض».
* د. حسين مجدوبي كاتب وباحث مغربي
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك:
حرب أوكرانيا تكشف نقصا حادّا بمخزون الأسلحة الدفاعية الغربية