مقاومة سلطة العقلية المتحجرة المتعصبة “مصر نموذجا”
المقال الثامن من سلسلة مقالات (المقاومة مقاومتنا)، لمطالعة المقال الأول، المقال الثاني، المقال الثالث، المقال الرابع، المقال الخامس، المقال السادس، المقال السابع.
لم يتسم المجتمع المصرى على مر تاريخه العميق الممتد بالجمود والتعصب والانغلاق الشامل والتكفيرية الطاردة للآخر ولم تحكمه هذه السلطة وكما لم تكن ديناميات موروثة وبيولوجية، فلم تنغلق العقلية المصرية وتستبد بها هذه السلطة ، ولم يتعامل بقوة الجسد والفكر فى حياته الاجتماعية بتنوعها الرأسى والأفقى.
ولم يصيب المجتمع فى شموليته أمراض هذه السلطة ، من الانكفاء والتمركز حول الأنا والجماعة والعزلة والانفصال العنصرى والتعصب والتصلب العقلى والمواجهة بالدموية وبالقمع وقمع التفكير والعقل وقتل الآخر وتشويهه وادعاءات تمثيل وامتلاك القداسة ، ولم تكن تتمثل فى المجتمع المصرى إلا استثناءا فى زمنيات محدودة بنطاقات جغرافية محدودة وضيقة جدا وجماعات ومجموعات ضيقة لا تتمييز بالعمومية والشمولية والمركزية ولم يتحكم فيه الحالة العنصرية الثنائية “معى أو ضدى” وتقديس الأنا والجماعة وتكفير وتغليط وكراهية الآخر وعدم قبوله وتصفيته على المستوى المعنوى والمستوى المادى وصولا إلى حق تحويل سلوكياتهم المؤقتة وأفكارهم الثانوية إلى نصوص ونماذج مقدسة يتحتم على مخالفيها القتل والاستبعاد والنفى.
اقرأ/ي أيضا: الحقيقة الغائبة: مابين تناقضات التصريحات الإسرائيلية والحاخامات
واستطاع المجتمع المصرى أن يحجم هذه السلطة طوال تاريخه من خلال قدرته على استيعاب تغيرات مجتمعه والتلاؤم مع المعطيات المستجدة دون الحاجة المطلقة إلى رفضها وبما ينتج العنصرية والتكفير والتصلب وما يؤدى إلى التغلب على المستجدات والدواخل والغزوات إلى حد دمج ماهيتها فى نسيجه المعرفى وبنيته العقلية وحتى تصبح عادات مألوفة محدثة نوعا من التوازن المجتمعى والتكيف الحياتى والتأقلم البيئى الحيوى وكعمليات دينامية مستمرة والمبنى التعايش والسماحة والتعاطف وقبول الآخر ورفض التعصب والتكفير.
ومما نتج عنه أن أصبح المجتعمع المصرى للفرد موحدا فى صورته الذهنية وفاعلياته وآلياته اليومية والشعور بالوحدة والتكامل النفسى والاجتماعى وسيادة الشعور بالمساواة بين عناصره الشعبية ووما يؤدى إلى نفى كبير للتمركز حول الذات والتزايد الكبير فى عمليات التواصل والاتصال الاجتماعى وبالتالى إلى الوحدة الاجتماعية العامة للوطن وصولا إلى أنها أصبحت مكونا للهوية المصرية ، ولم تكن الثورات المصرية عبر التاريخ إلا تعبيرا عن رفض تقديس الحاكم وهيمنة التسلط والعقائد العنصرية التى تؤله الحاكم والفرد والسلطان والطاعة المطلقة.
ولذلك رفض المصرى الماضوية التى تنفى الحاضر وتعيش متمثلة فحسب فى الماضى وتتخذ من الحاضر عدوا لها . ولم تمنع سلطة التعصب التى تنتج عن العلاقات العائلية والقرائبية والقبائلية أبناء هذه العلاقات من الحداثة والتعايش مع انماط الحياة المتطورة فى مجالتها المتنوعة والمركبة راسيا وأفقيا وعلى المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وحافظت هذه العلاقات العائلية والقرائبية والقبائلية فى إطار رفضها للماضوية التكفيرية على مرجعياتها الخاصة والمصرية العامة وتماسكها فى إطار المجتمع المصرى ورفض التفكك والإصرار على المشاركة بأدوارها الوطنية.
وليشكل الوطن المصرى المرجعية الأساسية التى تستمد منها مقوماتها ودينامياتها وتطورها رافضة طوال تاريخها الانعزال بعيدا عنه ومصرة على التفاعل التفاعل معه كجزء بنيوى أساسى منه لا حياة بدونه . ومن هذا المنطلق استطاع المصرى أن يكون أيديولوجيته الخاصة التى حافظت على إيماناته العقائدية المقدسة وفاعلياته فى الواقع المتطور وجمعت بينهما وبحيث تتيح له الوجود والحضور فى العالم بخصوصيته الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجماعية ومتجاوزة أية محاولات لتفتيتها وتفكيكها والانغلاق على النصوص المقدس والماضوية.
من هذا المنطلق تلعب مقاومة سلطة العقلية المتحجرة المتعصبة دورا مؤثرا فى ديناميات التفاعل الاجتماعى ومن خلال استمراريتها اكتسبها الوطن المصرى ومع عمليات التنشئة الاجتماعية بتنوعاتها المركبة وبما يشكل الإطار الدلالى المرجعى له والذى يحكم منظوماته الإدراكية والوجدانية والتفضيلية والتى تؤثر على عمليات التلقى والاستجابة والمفاضلة والاختيار وردود الفعل والتوجيه والضبط الاجتماعى سواء كان سلبيا وانحرافيا وضعيفا أو إيجابيا والانتماء والاختيار الأيديولوجى وتشكل ضميره الفردى وبالتالى الضمير الجمعى ومن ثم الضمير الوطنى.
ولم تستطع هذه السلطة فرض سيطرتها على مقدرات المواطن والوطن وتغييب عقله النقدى وإقصاء إعمال العقل والعلم ووصولا إلى حق امتلاك المطلق الدينى من أجل الهيمنة واستهداف تفكيك المجتمع المصرى بالصراع الدينى ، وتمسك المواطن المصرى بقوة بسلطة التسامح الدينى الذى تفرضه ديناميات السلطة الدينية بعمقها التاريخى المصرى وقام المصرى أيا كانت ديانته بحماية الكنائس فى أوقات تعرض المجتمع المصرى للمخططات التفكيك فى أعقاب ثورة 25 يناير وإعلن المسيحى أن الكنائس كلها فداءا لمصر بعد تعرض العديد من الكنائس للحرق من قبل الجماعات التكفيرية (تصريح قداسة الأنبا تواضراس فى تعرض العديد من الكنائس فى صعيد مصر للحرق). وحافظ المصرى على وحدة الوجود، ورفض تفكيك وتفتيت وحدة الوجود المصرى.
اقرأ/ي أيضا: لماذا يخاف المستبدون؟
ومن هذه المقاومة للسلطة المتحجرة توالدت ديناميات السلطة الدينية بعمقها التاريخى المصرى والذى مييزها بخصوصية ترفض تسييد احتكار فئة معينة للماهية الدينية وتفرض عليه السمع والطاعة العمياء ومحو خصوصيته الإنسانية والفردية وبمضامينها العملية المتعالية عليه وتكريس الهيمنة عليه والتسلط تحت إدعاءات امتلاكها للمرجعية الدينية وللمطلق الدينى والعودة به إلى نموذج ماضوى لتفرضه عليه وتفرض من خلاله العداء لكل من يخالفه وصولا إلى تكفيره الصريح.
وكما رفض المصرى تحويل النصوص المقدسة إلى آلية أحادية تقهره وتقمعه وتتعالى عليه حيث اعتبرها المصرى طوال تاريخه دافعا للمقاومة وأن سلطة دينامياتها الموروثه لم تمنعه أبدا من ممارسته الحياتية اليومية وعبر تطوره التاريخى الممتد آلاف السنين ، ومن هذه الخاصية لم تكن هناك ــ كما يدعى البعض ــ صدمة حضارية مدمرة نتيجة للتطورات الحداثية وما بعد الحداثية التى شهداها العالم فالعقل المصرى الذى رفض الأدلجة والتماهى مع التغييب الذى تستخدمه السلطة بكل تنوعاتها ، استطاع أن يتعايش مع كل التطورات التقنية ونتائجها وفاعلياتها وآلياتها ولنرى الآن بائع الفاكهة على العربة الكارو بثقافته المصرية وبائعة الخضروات فى السوق يتعايش معهم الآى باد كما يتعايش معه أصاحب السيارات الفاخرة ، بل واستوعبت لغته المفردات الحداثية وألـ ما بعد الحداثية فأصبحت كلمات أجنبية كلمات عربية باعتبار “قانون اعتبار الحال” فصارت مفردات مثل ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ الكمبيوتر والتلفزيون والآى باد وكاريزما وأمبول وفون مفردات عربية بـ “قانون اعتبار الحال”.
اقرأ/ي أيضا: خطاب مفتوح إلى الرئيس عمر البشير
عذراً التعليقات مغلقة