ارتفعت أسعار المستهلك 9.1% في يونيو عن عام سابق، في أعلى زيادة خلال أربعة عقود. والأسوأ من ذلك، أن الارتفاع لم يقتصر على السلع متقلّبة الأسعار مثل الغذاء والطاقة.
لكن، مهما كانت حجة التفاؤل مستساغة، لا يستطيع الاحتياطي الاتحادي استبعادَ احتمال حدوث صدمةِ تضخمٍ أخرى.
ومن المفترض أن يعمل الدولار كوحدة حساب ومخزن للقيمة. إنه الآليةُ التي تنسق العملَ البدني والفكري لملايين الناس. وإذا لم يستطع الناسُ الاعتماد عليه، سيفقدون الشهيةَ للادخار والاستثمار والتخطيط للمستقبل.
الوظائف الشاغرة في لجنة صنع القرار في الاحتياطي الاتحادي بأشخاص لا يطيقون تكبد كلفة قصيرة الأجل لاحتواء التضخم.
* * *
بقلم: سيباستيان مالابي
بالقرب من ذروة عصر التضخم، عام 1979، قدّم رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي حينها، بول فولكر، درساً في قيادة البنك المركزي.
فقد تجاهل الجدول الزمني المعتاد لاجتماعات المجلس، ودعا زملاءَه إلى اجتماع سري في عطلة نهاية الأسبوع، ثم خرج ليعلن للعالَم أن الاحتياطي الاتحادي قد أعاد كتابةَ قواعد اللعبة. وكانت تفاصيل السياسة الجديدة أقلّ أهميةً من الإشارة التي أرسلها فولكر.
فقد كان رئيس المجلس يعبّر عن فيضان الكيل، وأنه سيقهر التضخم، وأن أعراف الاحتياطي الاتحادي لن تحول دون ذلك. لقد واجه فولكر تضخماً في أسعار المستهلكين تجاوز 12%، وهو أسوأ بكثير من التحدي الحالي. لكن الاحتياطيَّ الاتحاديَّ يواجه اليوم لحظةً أخرى يمثل فيها التصرف بجرأة الطريقَ الأكثرَ سلامةً، بينما يمثل الحذرُ التقليدي خطراً.
وهذا ليس فقط لأن تقرير أسعار المستهلك الحديث كان مثيراً للقلق، رغم أنه كان كذلك. بل بسبب الخطر الذي تمثله الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولنبدأ بأحدث أرقام التضخم. فقد ارتفعت أسعار المستهلك 9.1% في يونيو عن عام سابق، في أعلى زيادة خلال أربعة عقود. والأسوأ من ذلك، أن الارتفاع لم يقتصر على السلع متقلّبة الأسعار مثل الغذاء والطاقة.
لقد ارتفع كل شيء من السيارات إلى الملابس إلى إيجارات المساكن. والمقياس الشهري كان أكثر إثارةً للقلق من المقياس السنوي. وأسعار يونيو جاءت أعلى بنسبة 1.3% عن أسعار مايو. ومن الطبيعي أن يكون بوسع مجلس الاحتياطي الاتحادي الانخراطَ في نقاش مبني على علم حول ما تعنيه هذه البيانات للمستقبل.
وبوسع متفائلين أن يشيروا إلى أن أسعار السلع التي ساهم ارتفاعُها العام الماضي في التضخم، قد تراجعت في الآونة الأخيرة. وبالمثل، تقلص عجزُ الميزانية الاتحادية بشكل كبير، مما أدى إلى كبح قوة أخرى تذكي التضخم. فالأجور ترتفع بسرعة أقل من العام الماضي، كما تراجعت الأسواقُ الماليةُ. وإذا وضعنا كلَّ هذا معاً، فقد ينخفض التضخم تلقائياً. وربما يكون لدى الاحتياطي الاتحادي خيار عدم التشديد بقوة والسماح للاقتصاد بمتنفَّس.
لكن، مهما كانت حجة التفاؤل مستساغة، لا يستطيع الاحتياطي الاتحادي استبعادَ احتمال حدوث صدمةِ تضخمٍ أخرى. فقد تستأنف الصين عمليات الإغلاق. وقد تتزايد عمليات الحظر المتعلقة بأوكرانيا. وقد يتعرض اقتصاد ناشئ ومهم ومصدر للسلع الأساسية لانهيار على غرار ما حدث لسريلانكا مؤخراً، وقد تظهر سلالة أكثر فتكاً من «كوفيد-19»، أو تقع كارثةٌ طبيعية.
ففي عام 2005، تسبب إعصار كاترينا في ارتفاع حاد في التضخم بعد تدمير مصافي النفط. ومع انعدام اليقين إلى حد كبير في المستقبل، يتعين على الاحتياطي الاتحادي أن يقرر سياسةَ أسعار الفائدة الأرجح أن تكون صائبةً، وكذلك يتعين عليه أن يقرر أيها أكثر كلفةً إذا كانت خاطئة.
والجواب على السؤال الثاني واضح. فبعد عام، جاء فيه التضخم أعلى من المتوقع شهراً بعد آخر، لا يمكن لمجلس الاحتياطي الاتحادي السماحَ له بالاستمرار بمثل هذا المستوى الحالي. ومن المفترض أن يعمل الدولار كوحدة حساب ومخزن للقيمة. إنه الآليةُ التي تنسق العملَ البدني والفكري لملايين الناس. وإذا لم يستطع الناسُ الاعتماد عليه، سيفقدون الشهيةَ للادخار والاستثمار والتخطيط للمستقبل. في غضون ذلك، تلوح في الأفق دورةُ انتخاباتٍ.
وقد يصبح التغلب على التضخم عملا طويلَ الأمد. فقد استغرق فولكر من 1979 إلى 1982 لخفض التضخم إلى حوالي 6%. وكانت هناك حاجة لمزيد من الجهود بعد ذلك. ففي أواخر عام 1989 قام آلان جرينسبان، الذي أعقب فولكر في المنصب، برفع سعر الفائدة قصيرة الأجل إلى نحو 10% للحفاظ على السيطرة على الأسعار. وإذا تم التغلب على التضخم الحالي بسرعة تقلص المدة السابقة إلى النصف، سيستمر الصراع إلى ما بعد المنافسة الرئاسية المقبلة.
وحالياً، من حسن حظ الاحتياطي الاتحادي أن يعمل في ظل فرع تنفيذي داعم. فالرئيس بايدن يتذكر سبعينيات القرن الماضي وكلفة ترك التضخم بلا رادع. وبايدن يفتخر بأنه «مؤسساتي» يحترم المؤسسات ومنها الاحتياطي الاتحادي. كما أن وزيرة الخزانة جانيت يلين نفسها، والتي سبق أن ترأست الاحتياطي الاتحادي، مهتمة بتمكينه من أداء مهمته في مكافحة التضخم.
وهذا وضعٌ استثنائيٌ تاريخياً. فقد هاجم رؤساء الولايات المتحدة، من ترومان إلى جونسون إلى نيكسون إلى بوش الأب، الاحتياطي الاتحادي كلما رفع التضخمُ رأسَه وحاول المجلسُ سحقَه. واتبع دونالد ترامب هذا التقليد على الرغم من أن التضخم لم يمثل مشكلةً كبيرةً في عهده. لقد نشر ترامب وابلا من التغريدات المنفلتة حول قرارات البنك المركزي.
وإذا فاز ترامب أو أحدُ أتباعه عام 2024، فمن المحتمل أن يهاجم الاحتياطي الاتحادي لتصديه للتضخم على حساب النمو والوظائف، على الرغم من أن أفضل ما يستطيع الاحتياطي الاتحادي فعلَه للاقتصاد هو تقديم أسعار مستقرة. وقد يجري ملء الوظائف الشاغرة في لجنة صنع القرار في الاحتياطي الاتحادي بأشخاص لا يطيقون تكبد كلفة قصيرة الأجل لاحتواء التضخم.
وبسبب هذا العامل السياسي، أصبحت مكافحة التضخم ملحة بشكل خاص. فإذا فشل الاحتياطي الاتحادي في السيطرة على الأسعار في فترة العامين والنصف المقبلة فقد تصبح مهمةً أصعبَ. وبالفعل، يتوقع أن يرفع الاحتياطي الاتحادي أسعارَ الفائدة نحو نقطتين مئويتين بحلول نهاية العام. ويجب عليه استجماع شجاعته لتحقيق أكثر من نصف الارتفاع المتوقع في اجتماع لجنة السياسات هذا الشهر.
*سيباستيان مالابي كاتب وباحث بـ«مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي.
المصدر: واشنطن بوست – ترجمة الاتحاد – أبوظبي
موضوعات تهمك: