إن ما يجري الآن في أوكرانيا، ومناطق النزاع الأخرى، ومن انفلات أمني على مستوى العالم، هو تفاعل ما قبل انبثاق النظام الدولي الجديد.
يعتبر بوتين «إن الروس والأوكرانيين شعب واحد اشترك في حيز تاريخي وروحاني واحد. وأن ظهور جدار بينهما بالسنوات الأخيرة، أمر مأساوي».
سقوط حلف وارسو وتوسع حلف الناتو شرقاً بانضمام جمهوريات سوفياتية سابقة له مثّل تحدياً كبيراً للاستراتيجية العسكرية الروسية وتهديداً خطراً للأمن الروسي.
أزمة أوكرانيا جزء من الصراع الدولي بين الشرق والغرب: الصين وروسيا مقابل أمريكا وأوروبا.. صراع معسكرين متنافسين لاكتساب مواقع جديدة وتحسين شروط التسويات مستقبلا.
كل طرف في الصراع يسعى لاكتساب أوضاع استراتيجية أفضل قبل موسم التسويات فما ساد من فراغ في العقود السابقة بعد انفراط النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد قابلاً للاستمرار ونظام دولي جديد متعدد الأقطاب قيد الانبثاق.
* * *
بقلم: يوسف مكي
بسقوط الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الماضي، خسرت روسيا كثيراً من عمقها الاستراتيجي، بانفصال أربع عشرة جمهورية عنها، كانت حتى وقت قريب ضمن الاتحاد السوفياتي، لكن الأكثر مرارة في هذه الخسارة، كان انفصال أوكرانيا، وإعلان البلاد دولة مستقلة.
فقد ارتبط البلدان بعلاقة تاريخية وثيقة، منذ القرن التاسع الميلادي، عندما أصبحت كييف عاصمة لروسيا القديمة.
وفي عام 1654، اتحدت روسيا وأوكرانيا، بموجب اتفاقية أثناء حكم القياصرة الروس. وتجمع الشعبين ثقافة مشتركة، ويتحدثان لغة متقاربة. وقد شكلا فيما بعد، مع روسيا البيضاء، القلب السلافي للاتحاد السوفياتي.
لا يزال معظم الروس يشعرون، بحنين وصلة وثيقة بأوكرانيا، تفوق مشاعرهم تجاه الجمهوريات السوفييتية السابقة، بالبلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى. ويشاطرهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه المشاعر.
فقد أشار في مقال له نشر في يونيو «إن الروس والأوكرانيين شعب واحد اشترك في حيز تاريخي وروحاني واحد. وأن ظهور جدار بينهما بالسنوات الأخيرة، أمر مأساوي».
وقد اعتبرت الحكومة الأوكرانية هذا المقال تلويحاً برغبة بوتين في إعادة ضم أوكرانيا للأراضي الروسية، وحذرت من أن المقال ينطوي على دوافع سياسية عدائية، وأن ما ورد به تبسيط مخل بالتاريخ.
ولا شك أن سقوط حلف وارسو، وتوسع حلف الناتو شرقاً، بانضمام معظم جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة له، والتي كانت حتى وقت قريب، أعضاء في حلف وارسو، مثّل تحدياً كبيراً للاستراتيجية العسكرية الروسية، وتهديداً خطراً للأمن الروسي. ومع أن أوكرانيا لم تكن ضمن الجمهوريات التي التحقت بالناتو، إلا أنها حصلت عام 2008 على وعد بالانضمام إليه.
وقد بات تهديد أوكرانيا لروسيا أكثر وضوحاً، بعد إطاحة رئيسها المؤيد لروسيا، عام 2014؛ حيث اقتربت البلاد من الغرب، وأجرت تدريبات عسكرية مشتركة، مع شمال الأطلسي، وحصلت على أسلحة أمريكية متقدمة. وترى واشنطن أن هذه إجراءات مشروعة، لتعزيز دفاعات أوكرانيا، بعد أن سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم وضمتها لأراضيها عام 2014.
تصاعدت الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، بعد أن أقدمت حكومة أوكرانيا في مارس 2014، على حرمان إقليم دونباس، الذي يتمتع بأغلبية روسية، من الحكم الذاتي وضمته إلى أراضيها.
وقد حذر الرئيس الروسي في هذا الاتجاه من «روسوفوبيا»، واعتبرها خطوة أولى نحو الإبادة الجماعية. وفي المقابل، اتهمت الحكومة الأوكرانية، روسيا بدعم المعارضة التي تنحدر من أصول روسية.
الدور الغربي في الصراع الأوكراني الروسي، بدأ منذ سقوط الاتحاد السوفييتي مباشرة، حين مولت منظمات أمريكية غير حكومية، مناصرين للغرب. ويذكر أن الولايات المتحدة، قدمت تمويلاً تجاوز الخمسة مليارات دولار في الفترة منذ استقلال أوكرانيا عام 1991 حتى عام 2013.
حاولت روسيا دون جدوى، احتواء التدخل الغربي بأوكرانيا. ففي 18 ديسمبر 2013، أعلن الرئيس الروسي بوتين رفع الحواجز الجمركية بين أوكرانيا وروسيا، وكذلك نيته لخفض سعر الغاز وتقديم قرض للحكومة الأوكرانية بقيمة 15 مليار دولار. لكن الانقلاب على الرئيس الأوكراني الموالي لها، فوت الفرصة على روسيا لاحتواء التدخل الغربي فيها.
إن روسيا بوتين ترى، وهي محقة إلى حد كبير، في تنامي العلاقات الأوكرانية مع حلف الناتو، تهديداً ماثلاً وخطراً، يجعل من كييف منصة انطلاق لصواريخ الناتو، باتجاه أراضيها. وترفض الاتهامات الأمريكية والأوكرانية، بأن حكومة بوتين تتحضر، لغزو أوكرانيا.
وهكذا فإن الأزمة في أوكرانيا، هي في حقيقتها جزء من الصراع الدولي، الدائر بين الشرق والغرب. تحالف الصين وروسيا من جهة، وأمريكا والاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى، وصراع بين المعسكرين المتنافسين على اكتساب مواقع جديدة، من أجل تحسين شروط التسويات بينهما في المستقبل.
إن ما يجري الآن في أوكرانيا، ومناطق النزاع الأخرى، ومن انفلات أمني على مستوى العالم، هو تفاعل ما قبل انبثاق النظام الدولي الجديد.
وكل يسعى إلى اكتساب أوضاع استراتيجية أفضل، قبل موسم التسويات؛ وذلك اعتراف بأن ما ساد من فراغ في العقود الثلاثة السابقة، بعد انفراط عقد النظام الدولي الذي ساد إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يعد قابلاً للاستمرار، وأن نظاماً دولياً جديداً، متعدد الأقطاب في طريقه للانبثاق.
* د. يوسف مكي كاتب وأكاديمي سعودي
المصدر| الخليج
موضوعات تهمك: