“الصحافي في زمن الاختفاء .. حول الصحافة في زمن الذل”.
هل تذكرون ناصر السعيد، اختُطف المعارض السعودي في بيروت في 17 كانون الأول- ديسمبر 1979، وسُلّم إلى المخابرات السعودية التي تولت تصفيته.
اختطف السعيد في بيروت، زمن الثورة الفسطينية، وكان اختطافه فضيحة أخلاقية وسياسية دفعت المفكر العراقي الكبير هادي العلوي إلى مغادرة المدينة التي لن يعود اليها. والحكاية غامضة، لكن هادي العلوي كان متيقنا من أن الذي قام باختطاف الرجل لحساب المخابرات السعودية، هو أحد مسؤولي “فتح” المدعو أبو الزعيم، الذي كان يُنظر إليه في أوساط مناضلي “فتح”، باعتباره عميلا لأكثر من جهاز مخابرات عربي. وهذه مسألة تحتاج إلى من يؤرخها ويوثّقها في سياق التأريخ لسجل الهزائم والعار.
يومها كنا في زمن آخر، لذا كانت المخابرات السعودية في حاجة إلى القيام بعملية معقّدة، استعانت فيها بخبرات وسيط كي تقوم باختطاف ناصر السعيد.
اختفى ناصر السعيد ولم يعلم أحد كيف أعدم وأين، لكن يُقال، والله أعلم، أنه رُمي من طائرة فوق صحراء الربع الخالي.
هكذا يعاملون الرعايا في العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وهذا هو مصير أصوات المعارضة والاعتراض، في الزمن العربي الأسود، الذي يعيش اليوم في ذروة الثورة المضادة، التي حولت بلاد العرب إلى جحيم.
اقرأ/ي أيضا: الأكاذيب اللاهوتية الصهيونية
لكن جمال الخاشقجي لم يكن معارضا للنظام في بلاده، فلماذا اختفى؟ دخل الرجل إلى القنصلية السعودية في اسطمبول ولم يخرج منها، المعلومات التي سرّبتها الوكالات الصحافية الأجنبية تقول انه قتل داخل المبنى الذي دخل إليه.
الوضع غريب لكنه لم يعد مستغرباً، ففي تركيا حيث تعاني الصحافة ما تعانيه، ويسجن الصحافيون والأكاديميون، تدور لعبة معقّدة بين أجهزة استخبارات الطغاة، لكشف و/أو اخفاء مصير الصحافي السعودي المفقود.
أعرف أن سؤالي ساذج، فزمن الاختفاء العربي وضع مقاييس جديدة صارمة، دور الصحافي أو المثقف الذي يُقدم النصيحة للسلطان، ويعترض قليلا، ويكتب في صحيفة أمريكية، هذا الدور انتهى. بل انه يقود صاحبه إلى الموت.
والحق يُقال ان الصحافة العربية تواجه مرحلة اختفائها في هذا الزمن. البترو دولار استولى على الصحافة العربية، ولعب معها لعبة ترك هامش صغير لها، يسمح لأقلام اعتراضية بالتعبير، شرط أن لا تقترب من ممارسات السلالات الحاكمة.
هذا الهامش انتهى اليوم.
ولعل حكاية نهايته تستحق أن تروى، فالنهاية كانت بالدم المسفوك. الصحافة اللبنانية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، كانت رائدة الموت. روّاد الحرية في لبنان صاروا روّاد الموت، والقائمة طويلة وتطول، من رياض طه وكامل مروّة إلى سليم اللوزي وجبران تويني. وكان اغتيال الصحافي والمؤرخ اللامع سمير قصيرعام 2005 في بيروت، ، هو تاج الموت الذي وضع على رأس الصحافة اللبنانية.
اقرأ/ي أيضا: هل يصبح الخليج بديلا لمصر؟
ولم يكتف القتلة باغتيال الصحافيين بل أَضافوا إليهم قائمة طويلة من المثقفين. وغدا عندما سيؤرّخ لثقافتنا العربية المعاصرة، لن يجد المؤرخون سوى تعبير واحد، إنها ثقافة الرقابة والمنع من جهة، وثقافة السجن والقتل والمنافي من جهة ثانية.
نعود إلى اختفاء الخاشقجي، أغلب الظن أن أصدقاءه وزملاءه من الصحافيين الأمريكيين، حيث يعمل الآن، والذين لعبوا دورا كبيرا في تلميع صورة “المستبد المصلح” سيكتشفون أنهم باتوا بلا حول في الزمن الترامبي. ففي زمن البلطجية والسفهاء الذين يحكمون العالم، تتعرض الصحافة الأمريكية الليبرالية لحملة شرسة من الرئيس الأمريكي، من أجل اخراسها واضعافها.
الخاشقجي وحده ولا يجد من يدافع عنه، لا في الغرب ولا في الوطن العربي.
ففي بلادنا المنكوبة بالطغاة، الذين يتذرعون بشتى الحجج من اجل استمرار طغيانهم من جزيرة العرب الى بلاد الشام، والذين يهينون اللغة ويمتهنون البشر، تارة باسم الاصلاح وطورا باسم محاربة التكفيريين، ويجعلون الدم مباحا من اليمن الى سورية، في هذه البلاد لن يجد الخاشقجي من يدافع عن حقه في التعبير وفي الحياة.
صار الدفاع عن التعبير مرادفا للدفاع عن الحياة. صارت الكلمة، خطرا على من يكتبها.
كلمتك أو حياتك، لم يعد هناك متسع للحياة إلا لمن أصيب بالبكم، لذا لا يتكلم المدافعون عن الطغاة الا لغة خرساء، يتهمون ويشبّحون ولكنهم ليسوا سوى رجال ونساء فقدوا ألسنتهم، وكسروا اقلامهم.
في بلادنا المنكوبة بمماليك القرن الحادي والعشرين، لن يجد جمال الخاشقجي من يحوّل اختفاءه إلى قضية، ومن يحاسب الخاطفين والقتلة.
اقرأ/ي أيضا: مغانم ترامب من مقتل خاشقجي
أما أسياد هذه الساعة المنقلبة، فهم سعداء، حتى حين يهين الرئيس الامريكي كراماتهم، أو حين يتصرف الرئيس الروسي ببلادهم.
ليسوا أقوياء سوى على شعوبهم.
هذه هي مهمتهم، اذلالنا وتحطيم بلادنا، وعندما تنتهي المهمة، يشيح اسيادهم وجوههم ويتركونهم يتهاوون.
كيف وصلت الجرأة بالسعودية لاختطاف الصحافي جمال الخاشقجي، وقتله كما يشاع؟
العملية تمت في وضح النهار، وفي اسطنبول. هذا التنمّر الذي بدأ في طريقة التعامل مع كندا حين طالبت بالافراج عن معتقلي الرأي، يصل إلى ذروته في اسطنبول.
انها البلطجة الترامبية، التي غطت وستغطي كل شيء شرط أن يدفعوا.
وهم يدفعون.
ترامب يهينهم وهم يدفعون.
ترامب يسخر منهم وهو يدفعون.
الترامبية أوحت لبعض العرب بالارتماء في احضان اسرائيل العنصرية، يرتمون ويدفعون.
انه الذل.
جمال الخاشقجي اختفى في زمن الذلّ.
يقدّم هذا الصحافي الدرس الأكثر بلاغة عن مصير الموالين الذين يريدون الاحتفاظ بالحد الأدنى من استقلاليتهم السياسية.
اذا كان مصير الحد الأدنى هو الاختفاء، فما هو مصير الناس الذين لا يزالون يصرون على الاحتفاظ بكرامتهم وحقهم في الحياة؟
اقرأ/ي أيضا: مقتل صحفية استقصائية بعد إغتصابها بسبب عملها