الساعة الخامسة والعشرون
يشبه ما حدث في العوالم الخيالية لهذه الرواية الرائدة، ما يجري في واقعنا اليوم، إذ يبدو العالم وكأنما لم يعد يأبه بأيّ قيمة إنسانية أو أخلاقية.
المصير الذي تُساق إليه الشخصيات في رواية الروماني كونستانتين فيرجيل جيورجيو (ترجمها إلى العربية فايز كم نقش عام 1953 وصدرت عن دار “اليقظة العربية” في دمشق وطبعت أكثر من عشر طبعات حتى اليوم)، يُظهر التناقض بين البراءة والشر، حيث يزجّنا منذ الصفحات الأولى في مواجهة حاسمة بينهما، حين يضع شخصاً ريفياً طيّباً وساذجاً وصادقاً وعفوياً وعاشقاً محبّاً ومتديّناً صادق التديّن وأخلاقياً لا يعرف الغش أو الكذب والمراوغة، هو إيوهان موريتز، في مواجهة عالَم من القتلة وعديمي الضمير والسياسيين الذين لا تهمّهم البراءة، ولا الحياة بشيء.
قد يبدو أن الشرطي الذي فُتن بسوزانا زوجة موريتز، هو أصل المأساة الفظيعة التي ألمّت به، منذ أن لفّق له تهمة أنه يهودي، وساقه مخفوراً إلى معسكرات العمل، غير أن المتأمّل في مصير موريتز، سيستنتج أن رئيس مخفر القرية، لم يكن سوى أداة عمياء، في يد قوى غاشمة تفسح له المجال كي ينفذ أعمالاً لا أخلاقية، في ظل قوانين جائرة، أو في ظل انعدام القوانين، وغياب العدالة، أو حس العدالة عند هذا النمط من الناس.
الأشخاص الآخرون الذين يضطهدون موريتز الطيب، ما كانوا يعرفونه من قبل، وليست لهم أي مطامع في زوجته. ولهذا، فإن ما يتعرّض إليه من قهر، لا يبدو عبثياً وحسب، بل هو يعكس حالة الانحطاط الخلقي والفكري التي انحدرت إليها البشرية، في ظل أنظمة الطغيان العنصرية في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من سنوات.
بخلاف كافكا، خلق جيورجيو أجواء كابوسية، في مساحة جغرافية حرص على أن يسمّي كل واحدة منها باسمها. فموريتز الذي يعتقل (أو يُصادر حسب القرار الذي ينصّ على سوقه إلى معسكرات العمل) في رومانيا، يُتّهم بأنه يهودي.
في المعسكر يطارده اليهود أنفسهم على أنه جاسوس. وحين يفرّ من المعتقل الروماني إلى البلد المجاور هنغاريا، يُعاد اعتقاله هناك لأنه جاسوس روماني، ثم يُعاد تصديره إلى ألمانيا ضمن صفقة ترضي بها هنغاريا جارتها القوية بعمال السخرة.
في ألمانيا، يكتشف أحد “خبراء الأجناس البشرية” أن موريتز ينتمي إلى فصيلة نادرة من الأعراق النبيلة، فيكتسب الجنسية الألمانية مرغماً، ويتحوّل، أو يُحوّل في الحقيقة إلى سجّان، سرعان ما يفرّ برفقة بعض الفرنسيين المعتقلين، فيلقى القبض عليه هناك، كعدوّ ألماني. سلسلة طويلة من الاعتقالات العبثية المجنونة التي يقف موريتز إزاءها حائراً لا يفهم شيئاً من إجراءاتها التي تحطّم كيانه واحدة بعد أخرى.
ما يتمنّاه المرء هو ألا تصدق نبوءة الروائي، أو ألا تصل البشرية إلى “الساعة الخامسة والعشرون”. ذلك أنها هي الساعة الميتة، تلك التي ما يني العالم يكرّرها، مدمّراً قيمه العليا من أجل مصالحه الدنيئة.
ممدوح عزام – العربي الجديد