زيادات سريعة في أسعار الفائدة حولت المسار لصالح الدولار الأمريكي، وهو ما يفسر جانباً من نقاط ضعف النظام النقدي العالمي.
في حال أقلع الجميع ببساطة عن عادة إدمان اقتراض الدولارات، فلن يذهبوا ضحية هذا «الاضطراب الناشب» اليوم في أسواق النقد العالمية.
رفع سعر الفائدة على الدولار يجرد البنوك المركزية العالمية من أدوات سياستها النقدية، ويلغي قدرتها على تحقيق استقرار فعال في اقتصاداتها.
مع تحويل المستثمرين الأموال من بلدانهم إلى أمريكا طمعاً في سعر الفائدة المرتفعة، ارتفعت كلفة الاقتراض وإصدار سندات سيادية لهذه الدول.
أدت قرارات الاحتياطي الفيدرالي رفع سعر الفائدة لزيادة عوائد مستثمرين يشترون الأصول الأمريكية واستحوذت أمريكا على استقطاب رؤوس الأموال إليها.
* * *
بقلم: محمد الصياد
تسعى الحكومات في جميع أنحاء العالم، إلى تأمين استقرار عملاتها والدفاع عن اقتصاداتها ضد الزيادات السريعة في أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، التي حولت المسار لصالح الدولار الأمريكي، وهو ما يفسر جانباً من نقاط ضعف النظام النقدي العالمي.
فقد رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة خمس مرات هذا العام، قفز بها من مستوى الصفر تقريباً إلى 4.5% في 14 ديسمبر 2022. ومن المتوقع أن يرفعها إلى 5%.
وقد أدت قرارات الفيدرالي الأمريكي الخاصة برفع سعر الفائدة، إلى زيادة العوائد التي يحصل عليها المستثمرون الذين يشترون الأصول الأمريكية، واستحوذت أمريكا على استقطاب رؤوس الأموال إليها.
والحال أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يقوم بالنفخ في الدولار الأمريكي بشكل كبير (عبر رفع سعر الفائدة)، فيُفضي ذلك عمليا إلى تجريد البنوك المركزية العالمية الأخرى من أدوات سياستها النقدية، ويحد بالتالي من قدرتها على تحقيق الاستقرار بشكل فعال في اقتصاداتها.
وقد نتج عن ذلك ضعف عملات الدول الأخرى التي يتم تقدير قيمتها بالنسبة لبعضها، ما تسبب في إضعاف العديد من الاقتصادات العالمية، وبضمنها بعض أكبر الاقتصادات في العالم، مثل اليابان وبريطانيا والهند، وأثر في الصين أيضاً وإن بصورة طفيفة.
فضعف عملاتها يعني استيراد الغذاء والطاقة والسلع الأخرى بكلفة أكبر، وهو ما يفاقم مشكلة التضخم لديها ويضر بالأسر، ويفضي ترتيباً إلى انكماش عالمي. كما أن ارتفاع قيمة الدولار جعل من الصعب على المقترضين الأجانب الذين لديهم ديون مقومة بالعملة الأمريكية سداد قروضهم.
ومع قيام المستثمرين بتحويل الأموال من بلدانهم إلى أمريكا طمعاً في سعر الفائدة المرتفعة، ارتفعت كلفة الاقتراض وإصدار سندات سيادية لهذه الدول.
يتحجج صنّاع القرار في الولايات المتحدة بالتضخم لتصعيد استخدامهم لسعر الفائدة. فهم يقولون إن التضخم مرتفع (8.3% في شهر أكتوبر الماضي، هبط إلى 7.1% في شهر نوفمبر 2022)، ويحتاج إلى كبح جماحه، حتى لو أدت الزيادات الحادة في سعر الفائدة إلى تدهور أوضاع النظام المالي العالمي، لدرجة دخوله في نوبة طويلة وخطيرة من عدم الاستقرار، كما يذهب بعض محللي الأسواق العالمية.
فلا يبدو أن بنك الاحتياطي الفيدرالي بصدد تغيير مسار سياسته، وسوف يواصل رفع أسعار الفائدة عام 2023. وحتى الآن لم تنجح تدخلات العديد من البنوك المركزية في العالم، بشراء عملتها الوطنية من الأسواق (خلق طلب مصطنع عليها في السوق)، في الحد من تدهور قيمتها، إلا بصورة لحظية!
كما هي حال اليابان التي أنفقت في شهر سبتمبر الماضي ما يقرب من 20 مليار دولار لشراء عملتها (الين) لوقف انخفاضها السريع، حيث عاد الين للانخفاض أمام الدولار المدعوم بسياسة تصعيد سعر الفائدة.
الأمر نفسه ينطبق على تدخلات البنوك المركزية في كل من كوريا الجنوبية وتايوان والفلبين وفييتنام وماليزيا وتايلاند والهند التي كان مصرفها المركزي، منذ شهر مارس الماضي يبيع احتياطياته من الدولارات، ويعيد شراء الروبية الهندية. وحتى أغسطس 2022، قام بشراء 43 مليار روبية، بيد أن ذلك لم يحل دون انخفاض الروبية بنحو 10% مقابل الدولار هذا العام.
رسمياً، لم تتدخل الصين بشكل مباشر حتى الآن لحماية عملتها رغم الانخفاض الطفيف في قيمتها، وذلك بسبب قوة اليوان مقارنة بعملات آسيا الأخرى؛ ولأن الحكومة الصينية وضعت سياسة مصرفية وطنية تهدف إلى دعم قيمة اليوان.
ناهيك عن فقدان هذه البنوك لأموال طائلة نتيجة ضعف قيمة احتياطياتها من العملة الصعبة (اليورو والاسترليني والين) التي تحتفظ بها للطوارئ. محافظ البنك المركزي الهندي، شاكتيكانتا داس، أكد في بيانه الشهري الأخير: «إن الاقتصاد العالمي في عين عاصفة جديدة».
غنيٌ عن القول، إنه في حال أقلع الجميع ببساطة عن عادة إدمان اقتراض الدولارات، فلن يذهبوا ضحية هذه «الربكة الناشبة» اليوم في أسواق النقد العالمية. فالأموال القائمة على الديون، تشكل الأساس الذي يمكن أن تنفلت فيه أمور الدولة نقدياً ومالياً.
فإذا لم تعتمد الدولة على مصادر تمويلها المحلية للاقتراض بعملتها الوطنية، ولجأت عوضاً عن ذلك للاقتراض من الخارج بالعملة الأجنبية، وخاصة الدولار الأمريكي، فهي، حين ترتفع أسعار الفائدة على العملة التي اقترضتها (الدولار في هذه الحالة)، ستقارب وضع المعسر الذي بالكاد يستطيع سداد خدمة دينه المستحق وفقاً للآجال التعاقدية.
*د. محمد الصياد كاتب اقتصادي بحريني
المصدر: الاتحاد – أبو ظبي
موضوعات تهمك: