من شأن الدولرة أن يمنح المستثمرين الأجانب الأمان ضد انخفاض قيمة العملة في تجارتهم المتزايدة مع أوروبا.
قيود منطقة اليورو النقدية تحدّ من قدرتها على خلق أموال للإنفاق بالاقتصاد ولا تسمح للدول الأعضاء بتجاوز عجز موازناتها 3% من إجمالي الناتج المحلي.
بالنسبة لأوروبا كلفة الدولار من ديونها الخارجية التي يتم تحملها لتمويل عجزها التجاري المتزايد مع الولايات المتحدة من وارداتها من الأسلحة والمواد الغذائية ستتضخم وقد تنفجر.
كلفة الاقتراض باليورو أكبر مع انخفاض العملة مقابل الدولار وسترتفع أسعار الفائدة، ما يؤدي لتباطؤ الاستثمار وجعل أوروبا أكثر اعتماداً على الواردات وتتحول منطقة اليورو لمنطقة اقتصادية مشلولة.
سيمكن الانقسام العالمي روسيا والصين وأوراسيا من إنشاء نظام عالمي جديد غير نيوليبرالي ولن تحتاج بلدان منظومته الجديدة إلى دول الناتو بعد فقدان الأمل والثقة بها.
* * *
بقلم: محمد الصياد
من المرجح أن تستمر النسخة الجديدة من الحرب الباردة التي تحولت بسرعة إلى حرب أوروبية أطلقتها «حرب أوكرانيا»، على الأقل، عقداً أو أكثر، برسم نية الولايات المتحدة المعلنة خوض الحرب من أجل الحفاظ على النيوليبرالية.
وهي حرب قد تتوسع لتعم العالم وتصبح حرب عالمية ثالثة. ولن يكتفي الاستراتيجيون الأمريكيون بغزوهم الاقتصادي لأوروبا، وإنما سيسعون لمحاصرة بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية على غرار ما تم التخطيط له لأوروبا.
ويتهكم بعض الاقتصاديين الأمريكيين على أوروبا، فيقولون: الآن، بعد أن توقفت أوروبا بشكل كبير عن أن تكون دولا مستقلة سياسياً، بدأت تبدو مثل بنما وليبيريا، كمراكز مصرفية خارجية، لا تمت إلى الدول الحقيقية بصِلة، نظراً لأن منطقة اليورو (تضم 19 دولة من الدول ال 27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي)، تم إنشاؤها بأصفاد نقدية تحدّ من قدرتها على خلق أموال للإنفاق في الاقتصاد بما يتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي، أي عدم السماح للدول الأعضاء في منطقة اليورو بتجاوز عجز موازناتها نسبة 3% من إجمالي ناتجها المحلي..
فلماذا لا تعتمد الدولرة (حلول النقود الأجنبية محل النقود المحلية في أي من وظائف النقود الخمس)، كما فعلت قبلها بعض دول أمريكا اللاتينية، مثل الإكوادور وجزر توركس وكايكوس البريطانية في المحيط الأطلسي، ولبنان وغيرها؟ فمن شأن هذا التدبير أن يمنح المستثمرين الأجانب الأمان ضد انخفاض قيمة العملة في تجارتهم المتزايدة مع أوروبا.
خلاف ذلك يعني (بالنسبة إلى أوروبا)، أن كلفة الدولار من ديونها الخارجية التي يتم تحملها لتمويل عجزها التجاري المتزايد مع الولايات المتحدة، من وارداتها من الأسلحة والمواد الغذائية، سوف تتضخم، وقد تنفجر.
ذلك لأن الكلفة باليورو تكون أكبر مع انخفاض العملة مقابل الدولار؛ وسوف ترتفع أسعار الفائدة، ما سيؤدي إلى تباطؤ الاستثمار، وجعل أوروبا أكثر اعتماداً على الواردات؛ وسوف تتحول منطقة اليورو إلى منطقة اقتصادية مشلولة.
وبالنسبة للولايات المتحدة، هذه هي هيمنة الدولار على أوروبا التي يمكن أن تصبح نسخة مكبَّرة، إلى حد ما، من بويرتوريكو التي تعتبر أراضي أمريكية.
أما الدول النامية، فسيؤدي الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة والغذاء إلى إلحاق الضرر، بشدة، باقتصادات تلك التي تعاني عجزاً في الغذاء والنفط، كما سيرتفع سعر صرف الدولار مقابل عملاتها.
وسيواجه العديد من البلدان الإفريقية، لاسيما بلدان شمال إفريقيا، وبلدان أمريكا اللاتينية خيارات صعبة، تتراوح ما بين عدم كفاية الغذاء للسكان، والاضطرار لتقليص استهلاك البنزين والكهرباء، واقتراض الدولارات لتمويل تجارة الوارد مع الولايات المتحدة.
وكان صندوق النقد الدولي قرر تقديم ائتمان بعملته الحسابية «حقوق السحب الخاصة» لتمويل ارتفاع عجز التجارة والمدفوعات في الدول النامية لجبر أضرارها الجسيمة من جائحة كورونا. لكن مشكلة هذا الائتمان أنه يأتي دائماً بشروط خانقة للإقلاع الاقتصادي والتعافي المنشود.
فلصندوق النقد الدولي سياسته الخاصة بفرض عقوبات على الدول التي لا تلتزم بسياسة الولايات المتحدة، التي ستطلب أولاً من الدولة النامية مقاطعة روسيا والصين، وتحالفهما التجاري والنقدي الصاعد معهما.
وسيقول المسؤولون الأمريكيون: «لماذا نمنحكم حقوق السحب الخاصة أو نقدم لكم قروضاً جديدة بالدولار، إذا كنتم ستنفقونها ببساطة في روسيا والصين ودول أخرى أعلنّا نحن إنها عدوة لنا؟».
وتتعرض بلدان الجنوب النامي لضغط أمريكي من أجل الانضمام إلى الستار الحديدي الجديد الذي تريد إقامته. وتريد حرمان بلدان القارة الإفريقية من مشاريع البنية التحتية الصينية، ومن منتجات الغذاء والنفط والغاز الروسية منخفضة الكلفة، في إطار الهدف الأساسي لاستراتيجية الولايات المتحدة المتمثل في تدشين الانقسام الكبير للاقتصاد العالمي.
وهذا ما يجعل الحرب العالمية الثالثة التي تلوح في الأفق حرباً حقيقية على الأنظمة الاقتصادية. فالهند أبلغت بالفعل الدبلوماسيين الأمريكيين أن اقتصادها مرتبط بشكل طبيعي باقتصادات روسيا والصين.
قبالة كل هذا التدخل السياسي والدعاية الإعلامية، سيكون الانقسام العالمي قد مكّن بالفعل، روسيا والصين وأوراسيا من إنشاء نظام عالمي جديد، ليس نيوليبراليا.
ولن تحتاج بلدان منظومته الجديدة إلى دول «الناتو» بعد فقدان الأمل والثقة بها. بهذا المعنى، سوف تكون ساحة المعركة مملوءة بـ«الجثث الاقتصادية».
* د. محمد الصياد كاتب بحريني
المصدر: الخليج – الدوحة
موضوعات تهمك: